المفسرون وعلم المناسبات

0 342

اعتنى كثير من المفسرين بـ (علم مناسبات القرآن الكريم) في تفاسيرهم، على اختلاف مشاربهم، وكما بحثوا في المناسبة بين الآيات، بحثوا عن الصلة والمناسبة بين سور القرآن عامة، ما بين مقل ومكثر. وكان أبو بكر النيسابوري أول من سبق إلى هذا العلم، وكان يلقي باللائمة على علماء بغداد لإهمالهم علم المناسبات، والكلام في هذا الشأن.
 
وتعرض أحمد بن عمار المهدوي للوحدة المعنوية بين آيات القرآن الكريم، وساق بعض الشواهد على التناسب بين آيات القرآن، منها: قوله عند تفسيره لقوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} (البقرة:119) وما بعدها، وهو قوله: {ولله ما في السماوات والأرض} (البقرة:120) ووجه التناسب: "إنما اتخذ إبراهيم خليلا؛ لحسن طاعته، لا لحاجته إليه؛ لأن له ما في السموات والأرض".
  
وعرض الزمخشري في تفسيره "الكشاف" لإعجاز وأسرار الجمال القرآني، وفيه يقول: "وهذه الأسرار والنكت، لا يبرزها إلا علم النظم، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها"، وكان للمناسبة في كتابه حظ أوفى ممن سبقه من المفسرين.
 
وابن عطية في كتابه في التفسير "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"، تعرض فيه للوحدة المعنوية بين آيات القرآن الكريم، التي يرى أكثر البلاغيين والمفسرين أنها مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في كتاب الله. فهو يقول في الانتظام الوارد بين قوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} (البقرة:115) وبين الآية التي قبلها {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها} (البقرة:114) قال: "هذه الآية منتظمة في معنى التي قبلها، أي: لا يمنعكم تخريب مسجد من أداء العبادات، فإن المسجد المخصوص للصلاة إن خرب، فثم وجه الله موجود حيث توليتم". 
 
وكان فخر الدين الرازي أكثر المفسرين اعتناء بعلم المناسبات، قال الزركشي: "وقد قل اعتناء المفسرين بهذا العلم لدقته، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي، وقال في "تفسيره": أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"، والشواهد في تفسيره "التفسير الكبير" كثيرة.
 
ثم قال الزركشي: "وهذا النوع يهمله بعض المفسرين، أو كثير منهم، وفوائده غزيرة". وقال القاضي أبو بكر بن العربي في "سراج المريدين": "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد، عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة، ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورددناه إليه".
 
واهتم ابن جزي الكلبي اهتماما بالغا بـ "علم المناسبات" بين الآيات والسور في تفسيره "التسهيل لعلوم التنزيل"، اقتداء بشيخه ابن الزبير الغرناطي. وعند تعرضه لتفسير آية مصارف الزكاة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} (التوبة:60)، أثار سؤالا عن سبب ذكر مصارف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين، وأجاب عنه بقوله: "إنه حصر مصارف الزكاة في تلك الأصناف؛ ليقطع طمع المنافقين فيها، فاتصلت هذه الآية في المعنى بالآية التي سبقتها، وهي قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} (التوبة:58). 
 
ويعد أبو حيان الأندلسي من المفسرين القلائل الذين أولوا عناية للتناسب بين آيات وسور القرآن الكريم، وتفسيره "البحر المحيط" حافل بالشواهد على ذلك، فهو قد درج على ذكر مناسبة أول كل سورة إلى آخر ما قبلها؛ ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى من أول سورة الأنبياء: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} (الأنبياء:1) فقد ذكر التناسب بين أول هذه السورة وآخر سورة طه، فقال: "مناسبة هذه السورة لما قبلها أنه لما ذكر قوله: {قل كل متربص فتربصوا} (طه:135) قال مشركوا مكة: محمد يهددنا بالمعاد، والجزاء على الأعمال، وليس بصحيح، وإن صح ففيه بعد، فأنزل الله تعالى: {اقترب للناس حسابهم}. وذكر مناسبة أول سورة عبس، وهو قوله تعالى: {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى} (عبس:1-2) للسورة التي قبلها، وهي سورة النازعات، فقال: مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر قوله: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات:45)، ذكر في هذه من ينفعه الإنذار، ومن لم ينفعه الإنذار، وهم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجيهم في أمر الإسلام، كـ عتبة بن ربيعة، وأبي جهل، وأمية بن خلف.
 
وقد أورد أبو حيان شواهد كثيرة على التناسب المعنوي بين آيات القرآن الكريم، من ذلك قوله وهو يفسر آية التحدي في سورة البقرة عند قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} (البقرة:23) قال: "مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لم يحتج عليهم بما يثبت الوحدانية، ويبطل الشرك، وعرفهم أن من جعل لله شريكا فهو بمعزل من العلم والتمييز، ويحتج على من شك في النبوة بما يزيل شبهته، وهو كون القرآن معجزة، ويبين لهم كيف يعلمون أنه من عند الله، أم من عنده، أن يأتوا هم ومن يستعينون به بسورة".
 
وعند تفسيره لقوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} (النساء:97) يبرز التناسب بين هذه الآية وما قبلها فيقول: "مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد، أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد، وسكن في بلاد الكفار". ويظهر الثواب الذي ذكره في قوله تعالى قبل هذه الآية: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة} (النساء:95-96). ولا يتوقف في هذه السورة عند ذكر تناسب آياتها، بل يورد التناسب بين أول السورة وآخرها، فيقول: "ختمت هذه السورة -يعني سورة النساء- بهذه الآية -يعني آية الكلالة- كما بدئت أولا بأحكام الأموال في الإرث وغيره؛ ليشاكل المبدأ المقطع، وكثيرا ما وقع ذلك في السور".
 
واهتم بها كذلك عدد من المفسرين، منهم: الشهاب الخفاجي، في حاشيته على "تفسير البيضاوي". والإمام نظام الدين، الحسن بن محمد النيسابوري، في تفسيره "غرائب القرآن ورغائب الفرقان". والعلامة أبو السعود،  محمد بن محمد العمادي، في تفسيره "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم". وشهاب الدين، محمود الآلوسي، في تفسيره "روح المعاني"، وغيرهم الكثير. وتفاسيرهم حافلة بالشواهد والأمثلة التي لا يتسع لها المقام.
 
كما حاول بعض العلماء والمفسرين من القدامى والمعاصرين، أن يحددوا للسورة القرآنية أهدافا ومقاصد عامة تعنى بها السورة، وقد أعانت هذه الأهداف والمقاصد على تبين أوجه الربط بين آيات السورة القرآنية.
 
ومن العلماء الذين لهم إسهامات في هذا المجال كل من: شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسيره لسورتي الفاتحة، والإخلاص، وتلميذه ابن القيم في تفسيره لسورتي الفاتحة والمعوذتين.
 
وحاول محمد أحمد السنباطي أن يجعل من الإمام ابن القيم رائدا لهذا الاتجاه، وتابعه في ذلك زاهر بن عوض الألمعي، في كتابه "دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم".
 
وتعرض الفيروز آبادي لبيان الأهداف والمقاصد لسور القرآن الكريم، في كتابه "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز". واهتم رشيد رضا في "تفسير المنار" ببيان أهداف السورة القرآنية، حيث كان يضع في خاتمة تفسير كل سورة ملخصا لأهم موضوعاتها، وقضاياها. 
 
وألف عبد الله شحاتة  كتابا متخصصا في هذا الموضوع تحت عنوان "أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن الكريم". كما حاول بعض العلماء إبراز الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، مثل: محمد عبد الله دراز، فقد تحدث عن ذلك في كتابه "النبأ العظيم"، فقال: "واعلم أنه ليس من همنا الآن أن نكشف لك عن جملة الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء هذه السورة الكريمة بعضها ببعض، فتلك دراسة تفصيلية لها محلها من كتب التفسير، وإنما نريد أن نعرض عليك السورة عرضا واحدا، نرسم به خط سيرها إلى غايتها، ونبرز به وحدة نظامها المعنوي في جملتها، لكي ترى في ضوء هذا البيان كيف وقعت كل حلقة في موقعها من تلك السلسلة العظمى"، ثم بين أهمية تحديد عمود السورة قبل الخوض في بيان المناسبات بين أجزائها، فقال: "بيد أننا قبل أن نأخذ فيما قصدنا إليه، نحب أن نقول كلمة ساق الحديث إليها، وهي: أن السياسة الرشيدة في دراسة النسق القرآني، تقضي بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه، فلا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعية بين جزء منه -وهي تلك الصلات المبثوثة في مثاني الآيات ومطالعها ومقاطعها- إلا بعد أن يحكم النظر في السورة كلها، بإحصاء أجزائها، وضبط مقاصدها على وجه يكون معوانا له على السير في تلك التفاصيل عن بينة...إلى أن يقول: "وبهذا تعرف مبلغ الخطأ الذي يتعرض له الناظرون في المناسبات بين الآيات، حين يعكفون على بحث تلك الصلات الجزئية بينها بنظر قريب إلى القضيتين أو القضايا المتجاورة، غاضين أبصارهم عن هذا النظام الكلي الذي وضعت عليه السورة في جملتها، فكم يجلب هذا النظر القاصر لصاحبه من جور عن القصد؟ وكم ينأى به عن أروع نواحي الجمال في النظم".
 
ومن المهتمين والمبرزين في هذا الجانب الأستاذ سيد قطب، في تفسيره "في ظلال القرآن"، فقد استوعب جميع سور القرآن الكريم في بيان وحدتها الموضوعية، والجرس الموسيقي المتناسب مع الآيات والمعاني. وقد اهتم الشيخ محمود شلتوت ببيان مقاصد السورة، ووحدتها الموضوعية من خلال "تفسيره" الذي فسر فيه عشر سور من القرآن الكريم، يقول في تفسيره لسورة آل عمران: "ونحن إذ نقرأ السورة، نجدها قد برزت فيها العناية بأمرين عظيمين، لهما خطرهما في سعادة الأمم وشقائها:
 
الأول: تقرير الحق في قضية العالم الكبرى، وهي مسألة الألوهية، وإنزال الكتب، وما يتعلق بها من أمر الدين، والوحي، والرسالة.
 
والثاني: تقرير العلة التي من أجلها ينصرف الناس في كل زمان ومكان عن التوجه إلى معرفة الحق، والعمل على إدراكه، والتمسك به"، ثم يشرع في تفصيل الأمرين.
 
كما اهتم بها الشيخ عبد العزيز جاويش، ودعا إلى تلمس الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية، التي تبين بصورة جلية ارتباط الآيات بعضها ببعض، فتتناسق آياتها، وتتلاحم، حتى تكون كالسبيكة الواحدة، فقال: "قد يغفل المفسر عما بين آيات القرآن من الارتباط، والتناسب، وما قد يفيد بعضها بعضا من البيان، أو التقييد، فيأخذها بالتأويل، مفككة العرى، مبددة النظم، حتى إذا استعصى عليه أمرها، ونبا عقله عن فهمها، لا يزال يركب في تأويلها صعاب المراكب، ويلتمس بلوغ معانيها بتسنم الجبال، وقطع السباسب، وقلما سلمت أقدامهم من العثار، أو استطاعوا إبراز ما فيها من الآثار".
 
كما كانت للأستاذ فضل حسن عباس نظرات ثاقبة في تبيين الوحدة الموضوعية في السور القرآنية من خلال استعراضه للقصص القرآني في كتابه "القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته". والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة