مواقف نبوية في الرِفْقِ مَع المُخْطِئ

0 580

الرفق هو لين الجانب بالقول والفعل، والتلطف في اختيار الأسلوب والكلمات، والأخذ بالأسهل الذي لا يتعارض مع الشرع، وترك التعنيف والشدة مع الناس وإن كانوا مخطئين.. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقا، لين الجانب في القول والفعل، يدعو إلى الرفق في الأمر كله، ويثني على من يتصف به، ويبين عظيم ثوابه، ويأخذ بالأيسر رفقا بأمته، وقد وصفه الله عز وجل بقوله: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}(آل عمران:159). قال ابن كثير: "يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته، المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: {فبما رحمة من الله لنت لهم} أي: أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم. قال قتادة: {فبما رحمة من الله لنت لهم} يقول: فبرحمة من الله لنت لهم.. وقال الحسن البصري: هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به. وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}(التوبة:128)". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه (أكمله وزينه)، ولا ينزع من شيء إلا شانه (عابه وجعله قبيحا)) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق) رواه أحمد. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) رواه مسلم.
لقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم شأن الرفق في الأمور كلها، وبين ذلك بفعله وقوله بيانا شافيا كافيا، لكي تعمل أمته به في أمورها كلها، وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل والمربين، فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم وتعليمهم وتربيتهم، وفي جميع أحوالهم. والرفق يدخل في تعامل الإنسان مع زوجته وأولاده، وأهله وأقاربه، وأصحابه وجيرانه، بل ومع المخطئين والمسيئين.. ومواقف النبي صلى الله عليه وسلم في رفقه بمن أخطأ وأساء كثيرة، ومنها:

1 ـ رفقه مع من تكلم في الصلاة:
عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم (أسرعوا في الالتفات إلي، ونفوذ البصر في)، فقلت: واثكل أمياه (الثكل فقدان المرأة ولدها، وحزنها عليه لفقده، والمعنى: وافقدها لي فإني هلكت)، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني (ما انتهرني ولا عبس في وجهي) ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم. قال القاضي عياض: "فيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليم من الرفق بالجاهل". وقال النووي: "فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه".
2 ـ رفقه بمن بال في المسجد:
من طبيعة الإنسان التي خلق عليها الخطأ والنسيان، ولا أحد في هذه الحياة مهما علا شأنه يخلو من خطأ، فلا عصمة لأحد إلا الأنبياء والرسل، ولذلك كان على الإنسان إذا وقع في خطأ أو معصية أن يبادر بالعودة والتوبة إلى الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) رواه الترمذي. والمخطئ أحيانا لا يشعر أنه أخطأ، فينبغي أن نزيل الغشاوة عن عينيه ـ برفق ـ ليعلم أنه أخطأ. عن أبى هريرة رضي الله عنه: (دخل أعرابي المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى، فلما فرغ (انتهى من صلاته) قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد تحجرت واسعا، فلم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع إليه الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهريقوا عليه سجلا من ماء، أو دلوا من ماء، ثم قال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه الترمذي.
(لقد تحجرت واسعا) أي: منعت وضيقت أمرا جعل الله فيه السعة، ألا وهو رحمة الله عز وجل التي تشمل كل عباده الموحدين.. قال ابن حجر: "وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا". وقال النووي: " وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء، إذا لم يأت بالمخالفة استخفافا أو عنادا، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما".
3 ـ رفقه وحلمه بالأعرابي الذي جذبه من ملابسه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني (نوع من الثياب نسبة إلى نجران باليمن) غليظ الحاشية (غليظ الجانب)، فأدركه أعرابي، فجبذه جبذة شديدة (فأمسكه من ثوبه بشدة)، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد، من شدة جبذته، قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر له بعطاء) رواه البخاري. قال النووي: "فيه احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله.. وفيه كمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وحلمه وصفحه الجميل".
4 ـ رفقه بشاب يستأذن في الزنا:
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه (أي: اسكت وانزجر)، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله، يا رسول الله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء) رواه أحمد. رواه أحمد. وفي رواية أخرى: وقال: (اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه، فلم يكن شيء أبغض إليه منه - الزنا -). في هذا الموقف النبوي مع هذا الشاب الذي يستأذن في الزنا أساليب كثيرة منها: الرفق واللين مع المخطئ، وعدم ترويع السائل الجاهل، وطلب دنو السائل واقترابه، ومنها: الإقناع العقلي، والدعاء للسائل والمخطئ، وهذا ما يغفل عنه الكثير من الآباء والدعاة والمربين، فالدعاء للعاصي في مواجهته يشعره بحرص الداعي عليه، وحبه له، ورغبته في هدايته، مما يصلح من أمره ويقربه إلى الله عز وجل..

لا شك أن الواقع في الخطأ والإساءة له حق علينا، يتمثل في نصحه وتوجيهه، بحكمة ورفق، فالله عز وجل يعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة والعنف، وسيرة النبي صلوات الله وسلامه عليه وحياته مليئة بمواقفه التربوية والمضيئة بالرفق مع العصاة والمخطئين، والتي ينبغي أن نقتدي بها في دعوتنا للناس وتعاملنا مع الآخرين، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في رفقه وفي أخلاقه كلها، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}(الأحزاب:21) . قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة