أولى علاجات الغلو في الدين الاعتصام بالكتاب والسنة

0 227

سبق الحديث في مقالات سابقة عن أسباب الغلو في دين الله تعالى، وكان الانحراف عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الأمر الجامع لتلك الأسباب كلها، ذلك أن الله تعالى قد أنزل كتابه القرآن كتاب هداية للبشر، وأرسل نبيه صلى الله عليه وسلم يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وجعل سبحانه طاعته وطاعة رسوله، والتمسك بكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم العاصم من الوقوع في الزلل والضلال، دل على ذلك آيات وأحاديث كثيرة.

فأما الآيات فمنها قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} [المائدة: 92]، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]، وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]. يبين تعالى لعباده في هذه الآيات وغيرها أن يرجعوا فيما اختلفوا فيه إلى كتابه سبحانه، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: "فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال".
 
وأما الأحاديث فمنها: حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ رواه الترمذي. وعن ابن عباس، رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله، وسنة نبيه. رواه البيهقي. وقال صلى الله عليه وسلم: قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك رواه ابن ماجه.
 
قال ابن تيمية: "وشواهد هذا الأصل العظيم الجامع من الكتاب والسنة كثيرة، وترجم عليه أهل العلم في الكتب كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، كما ترجم عليه البخاري والبغوي وغيرهما، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، وكان السلف - كمالك وغيره -: يقولون السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق". 
 
وهكذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم متمسكين بهذا الأصل، يدعون للتمسك به لأنهم عرفوا أنه وحده العاصم من الزلل. قال الشافعي: "لم أسمع أحدا نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله، والتسليم لحكمه، بأن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله واحد، لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
 
ومما يجدر التنبيه له في هذا المقام أن هذه الدعوة هي دعوة للاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حد سواء، وأما الاقتصار على أحدهما فهو أساس الانحراف والغلو وسببهما الرئيس. وقد قال صلى الله عليه وسلم في ذلك: ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه رواه أبو داود. قال الخطابي: "فإنه يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس له في القرآن ذكر، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض، فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن، وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا".
 
قال أيوب السختياني: "إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا من القرآن؛ فاعلم أنه ضال مضل"، وقد كان من عادة السلف أن يأخذوا المبتدعة بالسنن؛ لأن المبتدعة يجادلون بآيات بمتشابه القرآن، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا". بهذا سلم سلفنا الصالح من الزلل والغلو في دين الله تعالى، اعتصموا بكتاب الله تعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يقدمون عليهما رأيا ولا هوى. 
 
قال ابن تيمية: "وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده؛ فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم". 
 
وكان من أعظم ما عمله سلفنا الصالح العناية بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصيانتها من الضياع، وذلك حتى لا ينطلي افتراء أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدخل في سنته ما ليس منها، فنقد سلفنا الرجال، وتكلموا في أحوالهم، وقلبوا الأسانيد، وذلك حتى يبينوا الضعيف والصحيح، والمنكر والموضوع ونحوها من الأحاديث التي تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحاكم في ذلك: "فلولا الإسناد، وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه؛ لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترا".
فعصموا بذلك من الزلل، والوقوع في الغلو الذي وقعت فيه كثير من الفرق والطوائف غيرهم. 
بهذا وغيره يتبين لنا أن أول عاصم للمرء من الزلل اعتصامه بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن أول ما يعالج به الزلل والغلو في دين الله تعالى هو الاحتكام إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أيضا.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة