الجهل وأثره في فتنة التكفير

0 383

كانت الخوارج أول فرقة ظهرت في الإسلام، وكانت بدعتهم من أقبح البدع؛ فقد أوغلوا في تكفير أهل القبلة، واستحلوا دماءهم وأموالهم وسبي نسائهم..
ولقد كان للجهل أثره في هذا الفكر منذ نشأته، واستمرت هذه الصفة غالبة على أصحابه في كل زمان وإلى زماننا هذا..

الخوارج والجهل
فأكثر من ينسب لهذا الفكر جاهلون أو أميون.. ونعني بالأمية:
إما الأمية العلمية: بمعنى أنهم لم يتلقوا تعليما عاما، فهم لم ينتسبوا إلى صفوف الدراسة، ولم يتدرجوا فيها، فهم أميون بالمعنى الحرفي للكلمة، لا يحسنون القراءة والكتابة، أو أن لهم تعليما متدنبا، ومعلوم أن الإنسان المتعلم تتوسع مداركه، ويقوى فهمه، ويزيد استيعابه لما يقرأ أو لما يعرض عليه من معلومة.. وكلما قل العلم ضاق العقل وزاد عطبه وعطنه.
وإما أمية دينية: فبعض هؤلاء قد يكون تلقى تعليما دنيويا ولكنه جاهل بعلوم الدين، أمي في أمور الشريعة وقواعد الديانة، وإن كان طبيبا أو أستاذا في الجامعة، لكنه فقير جدا في علوم الدين والشريعة..

مظاهر الجهل عند التكفيرين
ولهذا كان للجهل أثر كبير على هذه البدعة الدخيلة وعلى أصحاب هذا الفكر الضال.. وكان من مظاهر هذا الجهل:
أولا: ما كان من مقدمهم ورأسهم وأصل بدعتهم:
وهو ذو الخويصرة التميمي، فإنه هو الذي اعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمته الذهيبة التي أرسلها إليه علي رضي الله عنه، وقال لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه: اعدل فإنك لم تعدل.
وهل هناك جهل في الورى أعظم من هذا الجهل، فمن يعدل إذا لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك رد عليه المصطفى الكريم فقال له: (ومن يعدل إذا لم يعدل رسول الله؟)، وفي رواية أنه قال: اتق الله يا محمد.. قال صلى الله عليه وسلم: (ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله).
فاعجب من هذا الجهل الفاضح، وهذه الجرأة المهلكة، وهل في الوجود أتقى وأعدل وأورع وأكمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانيا: وصف النبي لهم بأنهم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن هذا المشؤوم سيخرج من ضئضئه ـ أي من نسله أو أتباعه ـ قوم يقولون بقوله ويسيرون على نهجه، وأنهم سيرثون هذا الجهل عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن من ضئضئ هذا، أو: في عقب هذا قوم يقرؤون القرآن ‌لا ‌يجاوز ‌حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)[متفق عليه].
وقال عنهم أيضا: (سيخرج أقوام في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية)[مصنف عبد الرزاق: 9/334].

فقوله: "أحداث الأسنان"، أي: صغار السن، وقوله: "سفهاء الأحلام"، أي: عقولهم غير ناضجة، بل فيها سفه وخفة،
وقوله: "يقرؤون القرآن بألسنتهم، لا يجاوز تراقيهم" وفي رواية: "لا يجاوز حناجرهم"، ومعناه: أنهم ليس لهم حظ من القرآن إلا مروره على اللسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم.. والمراد أن الإيمان لم يرسخ في قلوبهم.. وقيل: كناية عن عدم القبول والرد عن مقام الوصول. أي لا يصعد عنها إلى السماء، ولا يقبله الله منهم. (انظر: المرقاة: 4/1505). وقال آخرون: معناه أنهم يقرؤونه لا يفهمون معناه، ولا يفقهون مقاصده وأوامره.

ثالثا: تكفيرهم لمن شهد له النبي بالجنة
فقد خرجوا أول ما خرجوا على على رضي الله عنه أمير المؤمنين والخليفة الرابع الراشد، بعد أن حكموا عليه بالردة والكفر، وخرجوا على أمة الإسلام، وخير الأنام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير القرون وأهل الإيمان وأعلم الناس بمراد الله ورسوله، فكفروهم أيضا وقاتلوهم بالسيف واستحلوا منهم ما يستحل من الكفار.

ولم يمنعهم من قتال علي رضي الله عنه أنه أول من أسلم، وابن عم رسول الله وزوج ابنته ومن أحب الناس إليه، ولا منعهم من تكفيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، ولا أنه كان من أهل بدر الذين قال الله لهم: (اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم)، ولا ما جاء في فضائله من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من المناقب المشهورة والمآثر المذكورة، لم يمنعهم كل ذلك من أن يكفروه ويخرجوا عليه بالسيف ويستحلوا قتاله ومن معه من المهاجرين والأنصار.

رابعا: لم يكن فيهم صحابي واحد
وقد كان الصحابة متوافرين، وكان المهاجرون والأنصار ما زالوا متكاثرين، وهم خير الناس بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا أعلم بالدين، وأوعى لمقاصده، وأفهم لكلام صاحب الرسالة ومراده، وأعلم بالقرآن والسنة ومراد الله من خلقه، ومع ذلك لم يكن مع الخوارج واحد فقط منهم، وبهذا استدل عليهم ابن عباس فإنه قال لهم لما أتاهم: "أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد..."[رواه النسائي والحاكم والبيهقي وصححه ابن تيمية في منهاج السنة].

سادسا: جهلهم بالدين وقواعد الشريعة
فمذهبهم قائم على تكفير المسلمين بالذنوب والكبائر، وقد رد هذا القرآن الكريم والسنة المطهرة، قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الإيمان" وهو يتحدث عن مذاهب الناس في أهل المعاصي والذنوب: "وأما الثالث: الذي بلغ به كفر الردة نفسها فهو شر من الذي قبله؛ لأنه مذهب الخوارج؛ الذين مرقوا من الدين بالتأويل، فكفروا الناس بصغار الذنوب وكبارها، وقد علمت ما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المروق وما أذن فيهم من سفك دمائهم ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى يكذب مقالتهم، وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا القتل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه).
أفلا ترى أنهم لو كانوا كفارا لما كانت عقوباتهم القطع والجلد؟ وكذلك قول الله فيمن قتل مظلوما: {فقد جعلنا لوليه سلطانا}[الإسراء:33]، فلو كان القتل كفرا ما كان للولي عفو ولا أخذ دية، ولزمه القتل" [الإيمان: 76، 77].

خامسا: مناظرة ابن عباس لهم
فقد ذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه، وحاورهم وسمع شبهاتهم فأجاب عليها كلها، وأبطل حججهم وأزال شبههم فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقتلوا على ضلالتهم، فقتلهم المهاجرون والأنصار. ومحاورة ابن عباس لهم مشهورة ومنشورة ومعروفة.

ومما يدل على جهلهم أيضا:
سادسا: عدم تفريقهم بين أنواع الكفر في إطلاقات الشرع، وأن منه أكبر وأصغر.
فإن لفظ الكفر والشرك في الشرع يطلق ويراد به أحيانا الكفر الأكبر المخرج من الملة، المحبط للعمل، الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه والرجوع عنه، كقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}[المائدة:5]، وكقوله: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب}[النساء:56]، {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها ۚ أولئك هم شر البرية}[البينة:6].
ومنه ما هو شرك وكفر أصغر، لا يخرج صاحبه من الإسلام، ولا يخلده في النار، ولا يحبط كل الأعمال، وصاحبه تحت المشيئة إن مات ولم يتب منه، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، وهذا إن أطلق على بعضه لفظ الكفر إلا أن أدلة أخرى من الشرع دلت على أنه ليس المراد به الكفر الأكبر، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وكقوله: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت)[صحيح الجامع]، وكحديث: (ثلاثة من الكفر بالله: شق الجيب، والنياحة، والطعن في النسب)[ابن حبان والحاكم، وهو في صحيح الترغيب]. والمقصود: أنها من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية.
فلما خلط التكفيريون بين هذه المعاني، كفروا المسلمين بما لا يكفر، وأخرجوهم من الدين وهم من أهله، وقاتلوهم واستحلوا دماءهم وأموالهم بغير حق، ومن تكلم بغير علم أتى بالعجائب.

سابعا: وعدم تفريقهم أيضا بين كفر الجنس والعمل، وبين كفر المعين.
فالحكم على العمل أنه كفر أكبر لا يعني بالضرورة أن فاعله كافر، فالحكم على الفعل شيء، والحكم على الفاعل شيء آخر، وليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه.. ولا يحكم على مسلم بالكفر إلا بعد توافر شروط وانتفاء موانع، منها الجهل والخطأ والشبهة والتأويل، وعدم بلوغ الدليل، أو عدم ثبوته عنده، وغير ذلك.. وقد اتفقت كلمة الأئمة المعتبرين على ذلك: 

قال ابن العربي رحمه الله: "فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركا أو كافرا فإنه يعذر بالجهل والخطأ حتى تتبين له الحجة التي يكفر تاركها بيانا واضحا لا يلتبس على مثله".

وعند القوم أشياء أخرى كثيرة، تدل على جهل مدقع، وأمية دينية بأساسيات الدين وقواعد الإسلام، ولو تعلموا لعلموا الحق فاتبعوه، وبان لهم الباطل فاجتنبوه، وصدق عمر بن عبد العزيز حين قال: "من عمل بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه".
نسأل الله أن يكفي الأمة شرهم، وأن يرزقنا وعباده الهداية والسداد.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة