بناء الإسلام على اليسر والسماحة(1 - 2)

0 436

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن المتأمل في عقيدة الإسلام وتشريعاته سيجد أن مبناها على التيسير والسعة والسماحة، فلا تخلو فريضة من الفرائض ولا شعيرة من الشعائر إلا وقد أضفى عليها الله - تعالى - من اليسر ما يجعل الإنسان قادرا على تطبيقها والقيام بها على الصورة التي أرادها الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه - عز وجل - لا يكلف النفس فوق طاقتها: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}(البقرة: 286). قال ابن كثير رحمه الله: (أي : لا يكلف أحدا فوق طاقته ، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم).
وتتضح لنا هذه الحقيقة في رسالة الإسلام بشكل أكبر عندما تتم المقارنة بين ما كانت عليها الأمم السابقة من المشقة والعنت، وما صارت عليه أمة الإسلام من يسر وسهولة، يقول الله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}(الأعراف: 157).
وإذا أردنا أن نخوض في أعماق مبدأ التيسير والسماحة في دين الله - تعالى - فإننا سنجد أنفسنا أمام بحر زاخر من الشواهد والنصوص والأحداث التي تقر هذا المبدأ وتحث المسلمين على انتهاجه واتباعه.

إن الدين الإسلامي بمجمله قائم على اليسر ورفع الحرج ابتداء من العقيدة السهلة النقية البعيدة عن التعقيدات والخرافات، وانتهاء بأمور الأحكام والعبادات بشكل يتوافق مع الفطرة الإنسانية وتتقبله النفس البشرية من غير تكلف أو تعنت، وهذا ما أشار إليه الله تعالى في مواطن كثيرة من كتابه العزيز، منها قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78)، وقوله عز وجل: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} (النساء:28)، وقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}(البقرة: 185).
وإذا تأملت السنة النبوية لوجدتها زاخرة بأحاديث كثيرة تحمل معاني اليسر في أمور الدين وعدم التنطع والتشدد في العبادات والطاعات، فقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أن من أهم ما تميزت به رسالة الإسلام عن غيرها من الرسالات السماوية السابقة هي السماحة واليسر كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا"رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه"متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة"رواه أحمد. والمقصود أنه أرسل بالدين السهل في أصوله وفروعه، فكلها وسط لا إفراط ولا تفريط، وتحصل جميع المصالح، وتدرأ جميع المفاسد.

والسيرة النبوية التي هي الترجمة العملية لسنته صلى الله عليه وسلم سترى فيها أن سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله مع صحابته مبني على منهج التيسير والسماحة، والشواهد أكثر من أن تعد أو تحصى، ويكفي سرد حادثة وقعت لأحد الصحابة وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يريد مخرجا لها يرويها أبو هريرة رضي الله عنه فيقول: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: "ما لك؟" قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها؟" قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا، فقال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟" قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر - والعرق: المكتل - قال: "أين السائل؟" فقال: أنا، قال: "خذها فتصدق بها"، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: "أطعمه أهلك"رواه البخاري.

مرتكزات التيسير في الإسلام:
أولا: الرخصة:
من مظاهر اليسر والسماحة في دين الإسلام أن الله يخفف عن عباده عند مظنة المشقة العارضة على المكلف، فالأحكام التي ينشأ عن تطبيقها مشقة على المكلف في نفسه أو ماله، فإن الشريعة ترخص له وتخفف عنه بما يقع تحت قدرته دون عسر أو إحراج، وجميع هذه الرخص الشرعية وتخفيفاتها متفرعة عن قاعدة "المشقة تجلب التيسير". وقد عرف السبكي رحمه الله الرخصة بأنها: ما تغير من الحكم الشرعي لعذر إلى سهولة ويسر مع قيام السبب للحكم الأصلي.
وإذا كانت الرخصة بهذا الشأن فإنه يستحب إتيانها والعمل بها في مواضع الجواز، يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته"رواه أحمد.
والرخصة قاعدة عظيمة من قواعد هذا الدين حيث تشمل جميع أمور الدين وجوانبه في العقيدة والعبادة والمعاملة والعقوبات وغيرها. وهي منحة وصدقة من الله - تعالى - لعباده، كما قال عليه الصلاة والسلام: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" رواه مسلم.

نماذج من الرخص الشرعية:
ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الرخص التي بينها الله ورسوله عليه الصلاة والسلام للأمة من خلال الأمثلة الآتية:
أ - الرخصة في السفر: وذلك بقصر الصلاة الرباعية المفروضة، والجمع بين صلاتي الظهر والعصر وكذا المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير. وكذلك الإفطار فيه، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}(البقرة: 184).
ب - التيمم بالتراب عند عدم وجود الماء أو عند تعذر استعماله ، لقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}(المائد: 6).
ج - الرخصة في الحيض والنفاس، وهما عذران للصلاة والصيام وغيرهما في حق المرأة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم". وعن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت"أي بدون طواف وداع في الحج.

ثانيا: الأصل في الأشياء الإباحة:
ومن أهم المرتكزات التي قام عليها منهج التيسير في الإسلام أن الأصل في الأشياء حلها وإباحتها، وليس منعها وحرمتها، فكل ما خلق في هذا الكون مسخر للإنسان ومهيأ للاستمتاع به، ما لم يكن فيه نهي صريح، يقول الله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه}(الجاثية: 13).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
(اعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها أن تكون حلالا مطلقا للآدميين، وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها، ومماستها، وهذه كلمة جامعة، ومقالة عامة، وقضية فاضلة عظيمة المنفعة، واسعة البركة، يفزع إليها حملة الشريعة، فيما لا يحصى من الأعمال، وحوادث الناس).
وبما أن الشارع قد بين ذلك فلا يحق لأحد أن يحرم هذا المباح، فإنه بذلك يدخل في نطاق التنطع والتعنت المنهي عنه، ومن أجل ذلك جاء التحذير الرباني بالنهي عن تحريم الأمور المباحة أو تحليل المحرم،: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (المائدة: 87)، كما نهى عن الأسئلة التي فيها تنطع، فقد يكون هذا السؤال سببا لإخراج الناس من الدين الحق، وإحلال غضب الله عليهم، كما حدث لبعض الأمم السابقة، يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم . قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}(المائدة: 101-102).
ويقول عليه الصلاة والسلام: "إن أعظم المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته"رواه البخاري ومسلم.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة