ترشيد الاستهلاك في السنة النبوية

0 370

الاستهلاك من أهم الأنشطة التي يقوم عليها الاقتصاد في العالم، بل هو الغاية التي يصل إليها النشاط الاقتصادي بشكل عام، وهو يعني: التناول الإنساني المباشر للسلع والخدمات، لإشباع رغبات الإنسان وحاجاته، وقد ساهمت السنة النبوية في توجيه السلوكيات الإنسانية في مجالات الإنفاق والاستهلاك، ووضعت مجموعة من التصورات السليمة التي ينضبط بها سلوك الفرد والمجتمع، وسنتناول مجموعة من القواعد التي تؤسس لترشيد الاستهلاك في حياة المسلم.

القاعدة الأولى: التوسط والاعتدال:

وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه بقوله: "وأسألك ‌القصد ‌في ‌الفقر والغنى" رواه ابن حبان عن عمار بن ياسر.

قال ابن رجب في شرحه على هذا الحديث: "والقصد: هو التوسط في الإنفاق، فإن كان فقيرا لم يقتر خوفا من نفاد الرزق، ولم يسرف فيحمل ما لا طاقة له به، كما أدب الله تعالى نبيه بذلك في قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) [الإسرا: 29]، وإن كان غنيا لم يحمله غناه على السرف والطغيان؛ بل يكون مقتصدا أيضا، قال الله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) [الفرقان: 67].

ولكن هل يكون معنى القصد في الفقر والغنى الثبات على حالة واحدة؟ بحيث ما ينفقه في حال فقره هو ما ينفقه في حال غناه؟ والجواب أن الحديث لا يدل على ذلك، كما أوضح ابن رجب أيضا: "المؤمن في حال غناه يزيد على نفقته في حال فقره، كما قال بعض السلف: إن المؤمن يأخذ عن الله أدبا حسنا، إذا وسع الله عليه، وسع على نفسه، وإذا ضيق عليه، ضيق على نفسه، ثم تلا قوله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله [الطلاق: 07] لكن يكون في حال غناه مقتصدا غير مسرف، كما يفعله أكثر أهل الغنى الذين يخرجهم الغنى إلى الطغيان". 

والقصد في الغنى يتأكد في حق القدوات من العلماء والأمراء والأغنياء، وذلك لأغراض تربوية عميقة، فقد كان علي رضي الله عنه يعاتب على اقتصاده في لباسه وهو يومئذ خليفة المسلمين، فيقول: "هو أبعد عن الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم". أخرجه الضياء في المختارة.

وعوتب عمر بن عبد العزيز في خلافته على تضييقه على نفسه فقال: "إن أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة".

وقد كان هذا الحال الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، فلم يرو عنهم التوسع في ملاذ الدنيا مع غناهم، وتمكنهم من ذلك؛ لأنهم كانوا قدوة لغيرهم.

القاعدة الثانية: أفكلما اشتهيت اشتريت:
هذه القاعدة التي أسسها عمر رضي الله عنه، وإن كنا لا نأخذ منها منع الإنسان من شراء ما يشتهيه، ولكن نأخذ من هذا الأثر أن لا يتحول ذلك إلى سلوك مرضي، بحيث لا يستطيع الإنسان مدافعة شهوته الشرائية لما ينفعه وما لا ينفعه.

فقد جاء في الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت" ذكره ابن مفلح في الآداب.

وجاء في الأثر عن جابر قال: رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا بيدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحما فاشتريته، فقال: أو كلما اشتهيت اشتريت يا جابر! أما تخاف هذه الآية: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها [الأحقاف: 20].

فالعاقل يربي نفسه في بعض الأحيان بمنعها من بعض رغباتها، حتى لا يقوى سلطانها، وتتغلب عليه شهواتها، فالنفس إذا لم تساس بمثل ذلك قويت عوائدها، وصعب على صاحبها مخالفتها.

القاعدة الثالثة: وخذ من غناك لفقرك:

وهذه القاعدة هي جزء من حديث رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك، قبل سقمك، ‌وغناك ‌قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" وهذا المبدأ النبوي يرشد إلى أن الغنى يعرض ويزول، وأن على العاقل أن يغتنم غناه بما ينفعه في آخرته، وأن يدخر منه لما ينفعه في حوائجه، فكم رأينا من أغناه الله تعالى فلم يشكر تلك النعمة، ولم يغتنم غناه بما ينفعه، بل سار ينفق المال دون حساب، ولما افتقر تندم حيث لا ينفع الندم، وما قال الحكماء: 

 

إذا هبت رياحك فاغتنمها                    فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها         فما تدري السكون متى يكون

إذا ظفرت يداك فلا تقصر                 فإن الدهر عادته يخون

 

القاعدة الرابعة: إضاعة المال سلوك يبغضه الله:
من الأمور التي يكرهها الله ويبغضها من العبد أن يرزقه مالا فيضيعه فيما حرمه عليه أو فيما لا ينفعه، فيتحول المال من نعمة مشكورة إلى وسيلة للحرام وكفران النعمة، فقد روى البخاري في الأدب المفرد: عن ‌المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، ‌وإضاعة ‌المال.

يقول الإمام الخطابي في أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري): "وأما قوله: {‌وإضاعة ‌المال}، فهي على وجوه، جماعها الإسراف في النفقة، ووضعه في غير موضعه، وصرفه عن وجه الحاجة إلى غيره، كالإسراف في النفقة على البناء، ومجاوزة حد الاقتصاد فيه، وكذلك اللباس والفرش، وتمويه الأبنية بالذهب، وتطريز الثياب، وتذهيب سقوف البيت ومن إضاعة المال تسليمه إلى من ليس برشيد، ويدخل في إضاعة المال احتمال الغبن في البياعات ونحوها من المعاملات".

وما أكثر وجوه إضاعة المال في زماننا، فإذا كان الخطابي في القرن الرابع الهجري قبل ما يزيد عن ألف سنة قد عدد أربعة وجوه لإضاعة المال، فإننا اليوم لو عددناها لوجدناها بالمئات وربما بالآلاف، وكل إنسان سليم العقل راشد التصرف يميز بين الإنفاق الرشيد وبين الاستهلاك الطائش، ولذلك لا نحتاج إلى تعداد وجوه إضاعة المال.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة