الإعراض في القرآن الكريم

0 4

المعنى اللغوي

قال ابن فارس: "العين والراء والضاد بناء تكثر فروعه، وهي مع كثرتها ترجع إلى أصل واحد، وهو العرض الذي يخالف الطول". ويأتي الإعراض في اللغة بعدة معان، منها:

- التولي والإضراب: إذا عدي بـ (عن) فإن قيل: أعرض عني، فمعناه: ولى مبديا عرضه. 

- تنحية الوجه وإشاحته: يقال: أعرض بوجهه وأشاح، أي: جد في الإعراض، وأعرض بوجهه: مال.

- الصد: تقول: أعرضت بوجهي عنه: أي: صددت، ويقال: أعرضت عن الأمر: صددت عنه وانصرفت.

مما سبق يتبن أن معاني الإعراض في اللغة تدور حول الانصراف والبعد عن الشيء. 

المعنى الاصطلاحي

لا يخرج تعريف الإعراض اصطلاحا عن أحد معانيه اللغوية؛ فقد عرفه السمعاني بقوله: "الإعراض صرف الوجه عن الشيء، أو إلى من هو أولى منه، أو لإذلال من يصرف عنه الوجه". وعرفه الكفوي بقوله: "الانصراف عن الشيء بالقلب". وقال ابن عاشور: "وحقيقة الإعراض عدم الالتفات إلى الشيء بقصد التباعد عنه".

الإعراض في الاستعمال القرآني

وردت مادة (الإعراض) في القرآن (53) مرة؛ وردت بصيغة الفعل الماضي (13) منها: {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} (الإسراء:67)، وبصيغة الفعل المضارع (6) منها: {وإن يروا آية يعرضوا} (القمر:2)، وبصيغة الأمر (13) منها: {فأعرض عنهم وعظهم} (النساء:63)، وبصيغة اسم الفاعل (19) منها: {وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين} (الحجر:81)، وبصيغة المصدر (2) منها: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا} (النساء:128). 

وجاء (الإعراض) في القرآن بمعناه اللغوي، الذي يدور حول الانصراف عن الشيء. 

الألفاظ ذات الصلة

1- الانصراف: لغة: رد الشيء عن وجهه؛ صرفه يصرفه صرفا فانصرف، وصارف نفسه عن الشيء: صرفها عنه. و(الانصراف) اصطلاحا: الإعراض عن الشيء ورده والهروب عنه. 

من هذا يتبين أن العلاقة بين الإعراض والانصراف أن كلا منهما يدل على رد الشيء، وعدم قبوله، ولكن الإعراض أعم من الانصراف. 

2- التولي: لغة: تولى عن الشيء، أي: أدبر عنه، وولى عنه، أي: أعرض عنه أو نأى. فالتولي إذا عدي بنفسه اقتضى معنى الولاية، وحصوله في أقرب المواضع منه، يقال: وليت سمعي كذا: أقبلت به عليه، وإذا عدي بـ (عن) لفظا أو تقديرا، اقتضى معنى الإعراض. و(التولي) اصطلاحا، قال المناوي: "هو الإعراض المتكلف بما يفهمه (التفعل)"، أي: أن صيغة تفعل هنا تفيد التكلف، كما في قولهم: تحلم، أي: تكلف الحلم. وقال الكفوي: "التولي: الإعراض مطلقا، ولا يلزمه الإدبار والتولي بالإدبار، وعلل بذلك أن تولي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ابن مكتوم رضي الله عنه لم يكن بالإدبار، وقد يكون على حقيقة الإدبار، وقد يكون كناية عن الانهزام، كما في قوله تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} (الأنبياء:57). وقد يكون كناية عن الانهزام، كما في قوله سبحانه: {ثم وليتم مدبرين} (التوبة:25)".   

وقد اختلف العلماء في التفريق بين الإعراض والتولي؛ فذهب جماعة من العلماء إلى أن كلا من الإعراض والتولي بمعنى واحد، وإن اختلفت الألفاظ، قال القرطبي: "والإعراض والتولي بمعنى واحد، مخالف بينهما في اللفظ". وهناك من فرق بينهما، فقال: التولي يكون بالجسم، والإعراض يكون بالقلب، فعلى هذا التفريق يكون المعرض والمتولي يشتركان في ترك السلوك، إلا أن المعرض أسوأ حالا؛ لأن المتولي متى ندم سهل عليه الرجوع، والمعرض يحتاج إلى طلب جديد، وغاية الذم الجمع بينهما.

3- الصد: لغة: يدور على معان، منها: الصرف والامتناع وشدة الضحك والجلبة، وكذلك الإعراض والعدول، قال ابن منظور: "الصد: الإعراض والصدوف...ويقال: صده عن الأمر يصده صدا: منعه وصرفه عنه، قال سبحانه: {وصدها ما كانت تعبد من دون الله} (النمل:43). و(الصد) اصطلاحا: "المنع بالإغراء الصارف عن الأمر...وقال الحرالي: الصد: الصرف إلى ناحية بإعراض وتكره". وعرفه الكفوي، فقال: "هو العدول عن الشيء عن قلى؛ يستعمل لازما، بمعنى الانصراف والامتناع {يصدون عنك} (النساء:61)، ومتعديا، بمعنى الصرف والمنع الذي يطاوعه الانصراف والامتناع {ولا يصدنك عن آيات الله} (القصص:87)".  

مما سبق يتبين وجه العلاقة بين الإعراض والتولي؛ فكل منهما يوجد فيه معنى العدول عن الشيء من قبل الشخص ذاته، ويفترقان في أن الصد قد يصدر من الشخص تجاه الآخرين بحملهم على العدول والامتناع، وهي صفة مذمومة؛ لأنها غالبا لم تستعمل إلا في الصد عن سبيل الله، وأما الإعراض فمنه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم بحسب السياق والمعنى. 

المأمورون بالإعراض في القرآن

من رحمة الله بعباده المؤمنين أنه قد بين لهم طريقة التعامل مع المعرضين؛ لئلا يجرف المعرضون غيرهم إلى إعراضهم، فيصدوهم عن الحق، ويزينوا لهم الباطل، ورأس الأمر الرباني في التعامل مع المعرضين هو الإعراض عنهم.

وأمر الله بعض رسله وأهل الإيمان بالإعراض عن أهل الشرك والكفر والضلال، وكان هذا الأمر من الله لرسله وعباده المؤمنين من باب الجزاء من جنس العمل، فهم أعرضوا عن شرع الله، فكان جزاؤهم من جنس عملهم، وهو أن يعرض عنهم رسله وعباد الله المؤمنين. 

أولا: الرسل عليهم السلام

ورد في كتاب الله الأمر لبعض رسله بالإعراض، وهو من الإعراض المحمود، ومن هؤلاء الأنبياء: 

- إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك} (هود:76) أمر سبحانه نبيه إبراهيم بالإعراض، وذلك كان في موضع المجادلة، فقال له الملائكة: دع الجدال في أمرهم والخصومة فيهم؛ لأنه {قد جاء قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} (هود:76) وكانت سبب مجادلة إبراهيم إنما كانت في قوم لوط، بسبب مقام لوط فيما بينهم. وقد ذكر أهل التفسير أن إبراهيم عليه السلام أمر بترك الإعراض، وترك المجادلة في قوم لوط؛ لأنه قد جاء التعليل في آخر الآية، وأنه قد شارفهم وقع العذاب. 

- يوسف عليه السلام، ورد الأمر لنبي الله يوسف بقوله سبحانه: {يوسف أعرض عن هذا} (يوسف:29) وكان الأمر ليوسف عليه السلام بالإعراض عقب حادثة اتهامه بالفاحشة، ومع ذلك فقد أمر بالإعراض عن ذكر ما كان منها إليك في ما راودتك عليه، حيث قد ظهر صدقك ونزاهتك، فلا تذكره لأحد، حرصا على التستر عليه. 

- نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، تعددت الآيات التي وردت في حق نبينا صلى الله عليه وسلم بالأمر بالإعراض أو تذكر إعراضه، واختلفت وقائعها، وكانت في مواقف عدة. ولقد وردت آيات عدة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين؛ من ذلك قوله سبحانه: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} (الحجر:94) أي: لا تبال بهم، ولا تلتفت إذا لاموك على إظهار الدعوة. فهذا هو التوجيه الرباني لنبيه في أول الدعوة، وهو الصدع بالدعوة والجهر بالحق، والإعراض عن الكفار والمشركين من أجل تحقيق الغاية التي من أجلها قد أرسله الله، وهي تعبيد الخلق لله، وإخراجهم من الظلمات إلى النور. 

ويتأكد الأمر بالإعراض عن أهل الشرك والكفر في مواقف كثيرة وآيات أخر، تدل على المعنى نفسه، كقوله: {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين} (الأنعام:106) وقوله: {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا} (النجم:29) وقوله: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف:199) وقوله: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} (الإسراء:28) أي: لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتحرمهم، وإنما يجوز لك أن تعرض عنهم عند عجز يطرأ، وعند عائق يعرض، وأنت عند ذلك ترجو من الله فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال عن المواساة {فقل لهم قولا ميسورا}، يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة، فتقول: الله يرزق، والله يفتح بالخير.    

ثانيا: المؤمنون

ذكر سبحانه المؤمنين وإعراضهم عن أهل الكفر والنفاق؛ ففي موضعين يأتي البيان القرآني لإعراض المؤمنين من باب الإخبار عن حالهم، وأن إعراضهم عما لا يليق، هو من دأب أهل الإيمان، {والذين هم عن اللغو معرضون} (المؤمنون:3) أي: معرضون عن الباطل وما يكرهه الله من خلقه، فهم معرضون عن كل باطل ولهو وما لا يحل من القول والفعل، وأيضا {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص:55) فأهل الإيمان يعرضون عن اللغو، وهو ما لا يليق من القول، ويقولون على جهة التبري: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} أي: سيجازى بعمله الذي عمله وحده، ليس عليه من وزر غيره، ولزم من ذلك أنهم يتبرؤون مما عليه أهل الجاهلون من اللغو والباطل.    

أنواع الإعراض

تحدث القرآن عن نوعين من الإعراض؛ أحدهما: محمود، والآخر: مذموم.

أولا: الإعراض المحمود، هو ما أمر الله به عباده المؤمنين من أجل زجر الكفار المعرضين عن دين الله، وتصديق رسله، والإيمان بهم، فأمر سبحانه المؤمنين بالإعراض عمن أعرض عن دين الله، وليس مساومته على شيء من الشريعة ليقبلها، فمن تولى عن ذكر الله يعرض عنه بنص الكتاب، وذلك أن مهمة الرسل والدعاة من بعدهم هي البلاغ لا الهداية، {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ} (الشورى:48)، {فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} (النساء:63).  

وكذلك أمر الله عباده المؤمنين بالإعراض عن أهل النفاق؛ لأن هؤلاء المنافقين يظهرون الخير ويبطنون الشر لأهل الإيمان، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالإعراض عنهم، خشية أن لا يتخذهم المؤمنين بطانة من دون المؤمنين، وينخدعوا فيهم وفي أفعالهم الظاهرة، فأوجب الله الإعراض عن قولهم، وعدم أخذ نصيحتهم، وأن لا يتخذوا منهم بطانة؛ لأنهم أهل غش وخيانة، فإذا أعرض المؤمنون عنهم، وتوكلوا على الله تعالى لم يضرهم المنافقون شيئا مهما بلغ كيدهم وعظم مكرهم، قال تعالى: {ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله} (النساء:81). 

1- الإعراض عن اليهود: أمر سبحانه نبيه بالإعراض عن اليهود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر للمدينة كانت اليهود تسأل النبي صلى الله عليه وسلم من باب التعنت، ولبس الحق بالباطل، فكان الله تعالى ينزل القرآن في ما كانوا يسألون عنه، من ذلك قوله تعالى: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا} (المائدة:42) فهذه الآية وإن كان ظاهر الخطاب أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذا الحكم باق ويتناول حكام المسلمين وعلماءهم، قال ابن عطية: "قال كثير من العلماء: الآية محكمة، وتخيير الحكام باق، وفقه هذه الآية أن الأمة مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم، ويتسلط عليهم في تغييره، وينفر عن صورته كيف وقع، فيغير ذلك..."، فيخير سبحانه نبيه وحكام المسلمين من بعده، ويبين لهم أنهم مخيرون بأن يحكموا بينهم، أو يعرضوا عن الحكم بينهم من أجل أن اليهود لا قصد لهم في الحكم الشرعي إلا أن يكون موافقا لأهوائهم، وعلى هذا فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم، يعلم من حاله أنه إن حكم عليه لم يرض، لم يجب الحكم لهم ولا الإفتاء، فإن حكم بينهم وجب أن يحكم بالقسط، ولهذا قال: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} (المائدة:41) حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم.

2- الإعراض عن المنافقين: بين سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من بعده كيف يتعاملون مع المنافقين، قال سبحانه: {فأعرض عنهم وعظهم} (النساء:63)، أي: هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك يا محمد صفتهم في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام إليك، وصدودهم عنك من النفاق والزيغ، وإن حلفوا بالله، فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأس الله أن يحل بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذرهم من مكروه ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله. ونبه ابن العربي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعرض عنهم تألفا ومخافة من سوء المقالة الموجبة للتنفير.

وفي آية أخرى يؤكد سبحانه على هذا الأمر، {ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله} (النساء:81)، أي: إذا حضروا معك، قالوا: أمرنا وشأننا طاعة لك في ما تأمرنا به، فإذا خرجوا من عندك دبروا ليلا، وأخفوا من النفاق غير ما قالوا لك من قبول الإيمان وإظهار الطاعة، وزوروا خلاف ما قلت لهم من الأمر بالطاعة.  

ويتوالى التأكيد على الإعراض عن هذه الفئة المنافقة في آية أخرى الخطاب فيها موجه للمؤمنين: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم} (التوبة:95)، فأمر سبحانه المؤمنين بالإعراض عنهم وتركهم والمهاجرة لهم، لا الرضا عنهم والصفح عن ذنوبهم، فإنهم في أنفسهم رجس؛ لكون جميع أعمالهم أعمال قبيحة، ولما كانوا هكذا كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير، والتحذير من الشر، فليس لهم إلا الترك، فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير. 

قال سيد رحمه الله: "وكانت الخطة التي وجه الله إليها نبيه صلى الله عليه وسلم في معاملة المنافقين، هي أخذهم بظاهرهم لا بحقيقة نواياهم، والإعراض والتغاضي عما يبدر منهم، وهي خطة أضعفتهم في النهاية، وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفا وخجلا".

3- الإعراض عن الجاهلين: أمر سبحانه نبيه بالإعراض عن الجاهلين، وعدم المبالاة بأفعالهم، وهذا من باب حسن العشرة مع الناس، قال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف:199) و(الجهل) هنا ضد الحلم والرشد، فالمراد بـ {الجاهلين} السفهاء كلهم؛ لأن التعريف فيه للاستغراق، وأعظم الجهل هو الإشراك؛ إذ اتخاذ الحجر إلها سفاهة لا تعدلها سفاهة، ثم يشمل كل سفيه رأي.   

وقد أكد سبحانه هذا الأمر أنه من صفات عباد الرحمن، {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (الفرقان:63) وكان هذا هو خلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي! هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه، قال: هي يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله) رواه البخاري. وعن عبد الله بن الزبير، قال: (أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، أو كما قال) رواه البخاري. فأمر الله تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه، وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فصله، ومن ظلمك فاعدل فيه.

4- الإعراض عن اللغو: قال سبحانه: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص:55) قال مجاهد: "نزلت في قوم كانوا مشركين فأسلموا، فكان قومهم يؤذونهم، فكانوا يصفحون عنهم، يقولون: {سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}". و(اللغو) سقط القول، والكلام العبث الذي لا فائدة فيه، والقبيح من القول؛ فالفحش لغو، والسب لغو، وكلام مستمع الخطبة لغو، والمراد من هذا في هذه الآية ما كان سبا وأذى، فأدب أهل الإسلام بالإعراض عنه. فالآية تدل على حال أهل الإيمان عند سماعهم اللغو، وأنهم يعرضون عنه، وإقامة (الإعراض) مقام (الترك) ليدل على تباعدهم عنه مباشرة وتسببا وميلا وحضورا؛ فإن أصله أن يكون في عرض، أي ناحية غير عرضه. 

5- الإعراض عن إيذاء من تاب من الفاحشة: قال تعالى في حق مرتكبي الفاحشة: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} (النساء:16) أمر سبحانه عباده بالإعراض والستر وترك التعيير لمن ترك جريمة الزنا، وعدم تعنيفهم بكلام قبيح بعد التوبة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.  

ثانيا: الإعراض المذموم

إن من أشد الخذلان وأفدح الخسران الإعراض عن ذكر الله سبحانه وعبادته، وبقدر إعراض العبد عن الله تكون خسارته وشقوته، فأهل الكفر والنفاق هم أهل الإعراض الكامل، فكان لهم الخسران المبين والشقاء الأبدي في الدنيا والآخرة. إن الإعراض عن الله وعن اتباع طريقه المستقيم سبب للعذاب في الدنيا والآخرة، فالإعراض يزيغ القلب، ويطمس البصيرة عن اتباع الحق. ومن الإعراض الذي ذمه القرآن الآتي:

1- الإعراض عن القرآن: ذكر سبحانه المعرضين عن القرآن والذكر في مواضع عدة من القرآن، ومع اختلاف أنواعهم وعاقبتهم وأحوالهم، قال تعالى: {من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا} (طه:100) فمن أعرض عن هذا القرآن وصد عنه وأدبر، ولم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب، والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من القصص والأمثال ونحو ذلك، فإنه سيعاقب يوم القيمة عقوبة كبيرة. وقال سبحانه: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه:124) ففي هذه الآية يبين سبحانه حال وعاقبة الإعراض المذموم، ومنه الإعراض عن القرآن. وفي موضع آخر يبين تعالى عاقبة الإعراض المذموم، فيقول: {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} (الجن:17) أي: ومن يعرض عن هذا القرآن، يسلكه الله عذابا شديدا شاقا.  

وقال سبحانه: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه} (الكهف:57) أي من لم يتدبر هذا القرآن ولم يتذكر ما به من أحكام فهو في غاية الظلم لنفسه، والكلام وإن كان مدلوله الوضعي نفي (الأظلمية) من غير تعرض لنفي المساواة في الظلم، إلا أن مفهومه العرفي أنه أظلم من كل ظالم، وبناء (الأظلمية) على ما في حيز الصلة من الإعراض عن القرآن للإشعار بأن ظلم من يجادل فيه ويتخذه هزوا خارج عن الحد.   

وبين تعالى حال المعرضين عن القرآن من كفار قريش، وذكر إعراضهم وتوبيخهم، فقال: {قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون} (ص:67-68) فالنبأ العظيم هو القرآن، فإنه نبأ عظيم؛ لأنه كلام رب العالمين، قال الزجاج: "النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم، يعني: ما أنبأهم به من قصص الأولين، وذلك دليل على صدقه، ونبوته؛ لأنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله، وجملة: {أنتم عنه معرضون} توبيخ لهم، وتقريع؛ لكونهم أعرضوا عنه، ولم يتفكروا فيه، فيعلموا صدقه، ويستدلوا به على ما أنكروه من البعث.

2- الإعراض عن الآيات الكونية: ذكر سبحانه في مواضع عدة من كتابه المعرضين عن آياته الكونية، ولم يتدبروها، ولم يتعظوا بها؛ ليؤمنوا بالله، بل أعرضوا عنها وجحدوها، قال عز وجل: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} (يوسف:105) قال الطبري: "وكم من آية في السموات والأرض لله، وعبرة وحجة، وذلك كالشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك من آيات السموات، وكالجبال والبحار والنبات والأشجار وغير ذلك من آيات الأرض، يعاينونها فيمرون بها معرضين عنها، لا يعتبرون بها، ولا يفكرون فيها وفي ما دلت عليه من توحيد ربها، وأن الألوهية لا تنبغي إلا للواحد القهار، الذي خلقها وخلق كل شيء، فدبرها". 

وقال عز وجل: {وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون} (الأنبياء:32) أي: وهؤلاء المشركون عن آيات السماء -ويعني بآياتها: شمسها، وقمرها، ونجومها- {معرضون} أي: يعرضون عن التفكر فيها، وتدبر ما فيها من حجج الله عليهم، ودلالتها على وحدانية خالقها، وأنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لمن دبرها وسواها، ولا تصلح إلا له. ويتأكد هذا في موضع آخر، {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} (الأنعام:4) أي: وما تأتي هؤلاء الكفار -الذين بربهم يعدلون أوثانهم وآلهتهم- حجة وعلامة ودلالة من حجج ربهم ودلالاته وأعلامه على وحدانيته، وحقيقة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق ما جاءهم به، إلا صدوا عن قبولها والإقرار بما شهدت على حقيقته، ودلت على صحته، جهلا منهم بالله، واغترارا بحلمه عنهم.

ويؤكد سبحانه ما كان عليه هؤلاء الكفار من الجحود والإعراض عن آياته ومعجزاته التي وصلت لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد رأوها رأي العين، وكان ذلك في وجودهم وحضورهم، وهي معجزة انشقاق القمر على عهده صلى الله عليه وسلم، {اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} (القمر:1-2) فانشقاق القمر أيام النبوة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: "كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة...وهذا أمر متفق عليه بين العلماء، أي: انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات"، وعلى الرغم من هذه المعجزة العظيمة التي حصلت في حضورهم، إلا أنهم أعرضوا عن الإيمان بها، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذبوا، وقالوا: سحر شديد يعلو كل سحر. {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} (يس:46) فـ (ما) في الآية هي النافية، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد، والمعنى: ما تأتيهم من آية دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال، {إلا كانوا عنها معرضين} وظاهره يشمل الآيات التنزيلية والتكوينية، والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها، وترك النظر الصحيح فيها، وهذه الآية متعلقة بقوله: {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} (يس:30) إذا جاءتهم الرسل كذبوا، وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها.

 3- الإعراض عن التوحيد: يخبر سبحانه عن أهل الكفر والشرك أنهم يلجؤون إليه سبحانه عند الشدائد والكرب، ويوحدونه ويفردونه بالعبادة، ثم لما ينجيهم من الكرب والشدة إذا هم يعرضون، ويتركون ما كانوا عليه وقت الشدة من إفراده سبحانه بالعبادة، فيعودون لما كانوا عليه من الشرك والكفر، {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا} (الإسراء:67) وهذا إعراض جديد من أهل الكفر؛ وهو أنهم إذا مسهم الضر في البحر؛ أي: اشتدت عليهم الريح، فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك، غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا، فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله سبحانه وحده؛ لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده، فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم، ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر. والمعنى: أنهم عند الشدائد يتمسكون برحمة الله، وفي الرخاء يعرضون عنه.

4- الإعراض عن شكر الله تعالى: يخبر سبحانه في مواضع عديدة من كتابه عمن يعرض عن شكر نعمته سبحانه، ويكفر بها بعد ما أنعم الله عليه بها، ومن هؤلاء قوم سبأ، قال سبحانه: {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور} (سبأ:15) ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة، أرسل الله عليهم نقمة، سلب بها ما أنعم به عليهم، فقال: {فأرسلنا عليهم سيل العرم} أي: الصعب والمطر الشديد- أو الوادي- أو السكر الذي يحبس الماء- أو هو البناء الرصين المبني بين الجبلين لحفظ ماء الأمطار وخزنها. وقد ترك فيه أثقاب على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا أهلكهم الله بخراب هذا البناء، فانهال عليهم تيار مائه، فأغرق بلادهم وأفسد عمرانهم وأرضهم، واضطر من نجا منهم للنزوح عنها، كما قال تعالى: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط} أي: ثمر مر، أو بشع لا يؤكل، {وأثل} شجر يشبه الطرفاء من شجر البادية لا ثمر له {وشيء من سدر قليل} (سبأ:16) وهو شجر النبق، أي: قلة لا تسمن، ولا تغني من جوع. فهذا تبديل النعم بالنقم، لمن لم يشكر النعم. 

وفي موضعين اثنين من القرآن الكريم يخبر تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو -إلا من عصم الله تعالى- في حالتي سرائه وضرائه، بأنه إذا أنعم الله عليه بمال وعافية، وفتح ورزق ونصر، ونال ما يريد، أعرض عن طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه، {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا} (الإسراء:83) ففي هذه الآية إشارة إلى السبب في وقوع هؤلاء الضالين في أودية الضلال، وهو حب الدنيا وإيثارها على الأخرى، وكفران نعمه تعالى، بالإعراض عن شكرها، والجزع واليأس من الفرج عند مس شر قضى عليه، وكل ذلك مما ينافي عقيدة الإيمان؛ فإن المؤمن ينظر بعين البصيرة، ويشاهد قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين، ويتيقن في الحالة الأولى أن الشكر رباط النعم، وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم، فيشكر ويصبر، ويعلم أن المنعم يقدر، فلم يعرض عند النعمة بطرا وأشرا، ولم يغفل عن المنعم، ولم يجزع عند النقمة جزعا وضجرا.

وفي موضع آخر يؤكد سبحانه هذه الحقيقة، {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} (فصلت:51) وليس بين الآيتين تناف؛ فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه.

5- الإعراض عن حكم الله ورسوله: يخبر تعالى عن صفات المنافقين، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويعرضون عن حكم الله ورسوله، فيقول: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} (النور:48) أي: إذا طلبوا إلى اتباع الهدى، فيما أنزل الله على رسوله، أعرضوا عنه، واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه، كقوله سبحانه: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} (النساء:61) وهذا يدل على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا، فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض، وسارعوا إلى الحكم وأذعنوا ببذل الرضا.

6- إعراض الزوج عن زوجته: يخبر سبحانه عن نوع معين من الإعراض المباح، وهو إعراض الزوج عن زوجته في حال كراهيتها أو لدمامة فيها، أو لكبر سنها، مما يرغب الزوج عن زوجته، فيبين سبحانه ما هو الحل والمخرج من ذلك الأمر، {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} (النساء:128) ففي هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ودمامة، أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها، فيذهب الزوج إلى طلاقها، أو إلى إيثار شابة عليها، ونحو هذا مما يقصد به صلاح نفسه، ولا يضرها هي ضررا يلزمه إياها، بل يعرض عليها الفرقة، أو الصبر على الأثرة، فتريد هي بقاء العصمة، فأباح الله تعالى بينهما الصلح، ورفع الجناح فيه، إذ الجناح في كل صلح يكون عن ضرر من الزوج يفعله حتى تعالجه، وأباح الله تعالى الصلح مع الخوف وظهور علامات النشوز أو الإعراض، وهو مع وقوعها مباح.

عاقبة الإعراض 

إن الإعراض عن الله سبحانه سبب للعقوبات العاجلة والآجلة، وبه تزيغ القلوب، وتطمس البصائر، فتعمى عن الحق، وترتكس في الإثم، فيضيق الصدر، وتسود الدنيا عند المعرضين، وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم من أعرض عن تعلم شرع الله، فعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما: فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر: فجلس خلفهم، وأما الثالث: فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) متفق عليه، فقوله: (وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه) أي: لم يرحمه، وسخط عليه، وهو معنى الإعراض من الله تعالى؛ لأن من أعرض عن نبيه وزهد فيه فليس بمؤمن، وإن كان هذا مؤمنا وذهب لحاجة من حوائج الدنيا وضرورة دعته إلى ذلك، فيكون إعراض عنه ترك رحمته وعفوه، وتقريبه وقبوله الذي أعطاها صاحبيه، فلم يثبت له حسنة، ولا نفى عنه سيئة؛ إذ لم يكن منه ما يثاب بذلك.

أولا: عاقبة الإعراض المحمود 

1- الكفاية والطمأنينة: أخبر سبحانه أنه كفى رسوله صلى الله عليه وسلم شر المستهزئين وكيدهم، قال سبحانه: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين} (الحجر:94-95). 

2- الأمن والحفظ: قال تعالى في صفة اليهود: {سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} (المائدة:42) أي: إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلا سبيل لهم عليك؛ لأن الله حافظك ومؤيدك وناصرك عليهم.

ثانيا: عاقبة الإعراض المذموم في الدنيا

1- الإعراض عن شرع الله سبب لنزول العذاب في الدنيا، ورفع العافية وإبدال النعم نقما، كما أخبر سبحانه عن قوم سبأ وما كانوا فيه من نعم الدنيا، ثم تحولت العافية عنهم، وأبدل حالهم من النعمة إلى النقمة بسبب إعراضهم، {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل} (سبأ:16). 

2- الإعراض عن شرع الله عاقبته الطمس على قلوب المعرضين، فلا تعي الذكر، ولا تبصر الحق، ولا يسير أصحابها في ما ينفعهم، بل يرتكسون في الكفر، وينغمسون في النفاق والاستكبار، ويجادلون بالباطل، يقول سبحانه: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا} (الكهف:57).

3- الإعراض عن شرع الله يصرف عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال، فالمعرضون لا يستطيعون اتباع الحق من الخذلان الذي حاق بهم؛ عقوبة لهم على إعراضهم، {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون} (فصلت:4-5).

4- الإعراض عن شرع الله مؤداه العيش في ضيق وضنك، والعذاب العاجل وما يجدونه في صدورهم من ضيق بالشريعة وأحكامها، ومن ضنك يجعل عيشهم مرا، ولو كانوا في الظاهر منعمين، {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه:124)، قال ابن الجوزي: "رأيت سبب الهموم والغموم: الإعراض عن الله عز وجل، والإقبال على الدنيا، وكلما فات منها شيء، وقع الغم لفواته". وقال ابن القيم: "ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، فإن من أحب شيئا غير الله عذب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالا، ولا أنكد عيشا، ولا أتعب قلبا". 

ثالثا: عاقبة أهل الإعراض المذموم في الآخرة

1- حمل الأوزار يوم القيامة: وأما عذاب الآخرة لأهل الإعراض عن الله تعالى وعن شريعته أليم شديد، قال عز وجل: {وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا} (طه:99-101). 

2- الوعيد لهم من الله بالانتقام: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} (السجدة:22) وانتقامه سبحانه منهم يكون في الدنيا بما يصيبهم في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ويكون في الآخرة بالعذاب الشديد، {ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون} (فصلت:16).

3- يحشرون عميا يوم القيامة: قال عز وجل: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه:124) فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة، وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب، {ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا} (الإسراء:97).      

* مادة المقال مستفادة من موقع (موسوعة التفسير الموضوعي).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة