- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
السيرة النبوية والتاريخ يشهدان أنه لم تعرف البشرية أحدا أوفى بعهده مع أعدائه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم شدة إيذائهم وكيدهم وعداوتهم له، وتمكنه منهم، وقد شهد له بذلك أعداؤه قبل أصحابه، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عرفت بالغدر صغيرا ولا كبيرا، بل عرفت بالبر والوفا". ولما سأل هرقل أبا سفيان - وهو عدو لرسول الله حينئذ -: "أيغدر محمد؟ فقال: لا، فقال هرقل: وكذلك الرسل لا تغدر".
بعد الانتهاء من كتابة وثيقة صلح ومعاهدة الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش والتي كان من بنودها: "من جاء إلى المسلمين من قريش ليسلم رده المسلمين إليهم". جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنه وهو في قيوده هاربا من المشركين في مكة، فقام إليه أبوه سهيل ـ مفاوض قريش في الحديبية ـ فضربه في وجهه، وقال: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فأعاده النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين. قال ابن كثير في "السيرة النبوية": "وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم".
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) رواه مسلم. قال ابن هبيرة: "فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نفي بالنون الجامعة ولم يقل لحذيفة: "فـ" لهم بعهدهم، لأنه علم أن حذيفة يقف عند ما يأمره به صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضا من الفقه أن الوفاء حق للمشرك بمثل هذا العهد الجائز مظنة إعانة الله سبحانه وتعالى لقوله: (نفي لهم ونستعين الله عليهم)". وقال ابن الجوزي: "في هذا الحديث من الفقه حفظ الوفاء بالعهد ولو للمشرك فيما يمكن الوفاء به". وقال الصنعاني: "(ونستعين الله عليهم) أي: نستغني عنكما بإعانة الله على قتالهم، وقد أعانه الله فكان له الفتح العظيم يوم بدر".
وقال ابن القيم: "ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن أعداءه إذا عاهدوا واحدا من أصحابه على عهد لا يضر بالمسلمين بغير رضاه أمضاه، كما عاهدوا حذيفة وأباه الحسيل أن لا يقاتلاهم معه صلى الله عليه وسلم، فأمضى لهم ذلك (وأرجع حذيفة وأباه ولم يستعن بهما في غزوة بدر)، وقال: انصرفوا نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم".
النهي عن قتل رسل وسفراء الأعداء:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفي بالعهود والمواثيق التي تكون بينه وبين أعداء الإسلام، وينهى عن قتل رسل وسفراء الأعداء. عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره قال: (بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقي في قلبي الإسلام، فقلت يا رسول الله: إني والله لا أرجع إليهم أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أخيس (أنقض) بالعهد، ولا أحبس البرد (الرسل)، ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع، قال: فذهبت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت) رواه أبو داود. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء ابن النواحة وابن أثال - رسولا مسيلمة (الكذاب الذي ادعى النبوة) - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟! فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسوله، ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما. قال عبد الله: قال: فمضت السنة أن الرسل (السفراء) لا تقتل) رواه أحمد. وفي رواية أبي داود عن نعيم بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما).. ثم كتب صلى الله عليه وسلم الى مسيلمة في جوابه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".
قال صاحب "عون المعبود": "فيه دليل على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار، وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام ـ أي عند رئيس الدولة ـ ". وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": "هذان الحديثان: حديث عبد الله بن مسعود وحديث نعيم بن مسعود رضي الله عنهما يدلان على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار، وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام أو سائر المسلمين". وقال ابن القيم في "زاد المعاد": "حكمه في الوفاء بالعهد لعدوه وفي رسلهم أن لا يقتلوا ولا يحبسوا، وفي النبذ إلى من عاهده على سواء إذا خاف منه النقض، ثبت أنه قال لرسولي مسيلمة لما قالا: نقول إنه رسول الله (لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما)".
أقام النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي الأول في المدينة المنورة على أساس المساواة والعدل، والوفاء ومحاسن الأخلاق، وتعظيم الحرمات ـ الدماء والأموال والأعراض ـ، ولا فرق بين إنسان وإنسان، ولا تمييز بين الناس والأجناس والألوان إلا بالتقوى، وقال في خطبته المشهورة في حجة الوداع: "يا أيها الناس إن ربكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".. وكان صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من الغدر، وينهى قادة جيوشه عنه. عن بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلوا (تأخذوا شيئا من المغنم قبل قسمته)، ولا تغدروا، ولا تمثلوا (لا تشوهوا ولا تقطعوا شيئا من جثث عدوكم)، ولا تقتلوا وليدا) رواه البخاري. قال المناوي: "الغدر: نقض العهد والإخلال بالشيء وتركه". وقال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تغدروا) بكسر الدال.. وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر".
ما وجد على الأرض أعظم خلقا، وأرحم بالناس، وأوفى بوعد وعهد من نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى عنه: {وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم:4)، ولم يتخلف وفاؤه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حتى مع أعدائه الذين آذوه وحاربوه، وبذلوا غاية جهدهم للقضاء على دينه ودعوته، وكادوا له ولصحابته.. وقد سبق النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ العالم كله في إقامة العلاقات الدولية على أساس الوفاء بالعهود والمعاهدات، وعدم قتل الرسل والسفراء بغض النظر عن المعتقدات.. والسيرة النبوية المشرفة بما فيها من غزوات ومواقف وأحداث، زاخرة بالمواقف المضيئة الدالة على عظم وفاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقر وشهد أعداؤه بوفائه وهم في شدة عداوتهم له، وقالوا عنه: "ما عرفت بالغدر صغيرا ولا كبيرا، بل عرفت بالبر والوفا"..