- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:القرآن الكريم
علم كبير من شبه القارة الهندية، لا يكاد يعرفه إلا القليل من المختصين، رغم أن له جهودا جليلة في الثقافة العربية الإسلامية، ولا سيما فيما يتعلق بالقرآن المجيد وعلومه، إنه الشيخ حميد الدين عبد الحميد بن عبد المحسن الأنصاري الفراهي، ولد (1280هـ-1864م) في قرية (فيرها) من قرى مديرية (أعظم كره) بشبه القارة الهندية، وبدأ تعليمه في سن مبكرة، فحفظ القرآن صغيرا، وبرع في الفارسية حتى نظم فيها الشعر وهو ابن ستة عشر عاما، ثم اشتغل بطلب العربية وعلومها على يد ابن عمته المؤرخ الأديب شبلي النعماني (1274 -1332هـ/ 1858-1914م)، كما تلقى العلم في حلقة الفقيه الحنفي المحدث الشيخ أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي (1264- 1304هـ/ 1848 -1887م) وغيره من علماء عصره، ثم سافر إلى لكنو -مدينة العلم في الهند- وجلس في حلقة الفقيه المحدث الإمام الشيخ أبي الحسن السهارنفوري -شارح الحماسة وأستاذ اللغة العربية في كلية العلوم الشرقية بلاهور- فبرع في الآداب العربية، وفاق أقرانه في الشعر والإنشاء.
قرأ دواوين الجاهلية كلها، وحل عقد معضلاتها، وقنص شواردها، فكان يقرض القصائد على منوال الجاهليين، ويكتب الرسائل على سبك بلغاء العرب وفصائحهم. ثم عرج على اللغة الإنجليزية وهو ابن عشرين سنة، والتحق بكلية (عليكره) الإسلامية، وحصل على الإجازة الجامعية في الفلسفة الحديثة من جامعة (الله آباد).
كتب وألف وقرض وأنشد، ثم انقطع إلى تدبر القرآن ودرسه، والنظر فيه من كل جهة، وجمع علومه من كل مكان، فقضى فيه أكثر عمره، ومات وهو مكب على أخذ ما فات العلماء، ولف ما نشروه، ولم ما شتتوه، وتحقيق ما لم يحققوه، فكان لسانه ينبع علما بالقرآن، وصدره يتدفق بحثا عن مشكلاته، وقلمه يجري كشفا عن معضلاته، حتى وافته المنية في (19/06/1349هـ /11/11/1930م) في مدينة (متهورا) حيث كان يتطبب من مرض ألم به.
عين أستاذا للغة العربية بكلية عليكره الإسلامية، وكان بها يومئذ أستاذ اللغة العربية المستشرق الألماني الشهير يوسف هارويز، الذي استكمل العربية من الفراهي، وقرأ عليه الفراهي العبرية. ثم عين أستاذا بجامعة الله آباد، وبقي فيها أعواما حتى انتقل منها إلى حيدر آباد الدكن، رئيسا لمدرسة دار العلوم النظامية، التي كانت تخرج قضاة البلاد وولاتها. وعمل على تأسيس (الجامعة العثمانية)، والتي كانت من أحدث جامعات العالم سنا، وأعجبها نظاما.
ثم استقال ولزم بيته، وانقطع إلى العلم، وكان قد أسس قرب قريته مدرسة عربية دينية، سميت (مدرسة الإصلاح) فكان ينظر في شؤونها، وكان من أعظم مقاصدها وأهدافها تحسين طريق تعليم العربية، وإيجاز قائمة دروسها المتعبة العقيمة، وإلغاء العلوم البالية القديمة، والعكوف على طلب علوم القرآن، والبحث عن معانيه ونظمه، وأحكامه وحكمه.
كان الفراهي نموذجا مشرفا للعالم المسلم، الجامع بين التبحر في العلوم العربية والدينية، والاطلاع الواسع على العلوم العصرية والطبيعية، وقد ظهر أثر هذه الثقافة الموسوعية العميقة في ما كتب من مصنفات قاربت الخمسين مصنفا، أهمها وأعظمها ما كتبه حول القرآن المجيد وتأويله ونظامه، وكذلك ما كتبه حول الحديث الشريف والأدب العربي والفلسفة الأخلاقية والمنطق، بالإضافة إلى الكثير من الشعر الراقي في كل من اللسانين العربي والفارسي، وفي ذلك يقول أبو الحسن الندوي: "ولا يتأتى ذلك إلا لمن جمع بين التدبر في القرآن والاشتغال به، والتذوق الصحيح لفن البلاغة والمعاني والبيان في اللغة العربية، وبين التشبع من دراسة بعض اللغات الأجنبية والصحف السماوية القديمة، وسلامة الفكر ورجاحة العقل والتعمق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
كان الفراهي -كما يقول عنه أحد أبناء مدرسته-: "غاية، بل آية في حدة الذكاء، ووفور العقل، ونفاذ البصيرة، وشدة الورع، وحسن العبادة، وغنى النفس. ولئن تأخر به زمانه، فقد تقدم به علمه وفضله".
رصد محمد أجمل أيوب الإصلاحي في مقدمته الضافية لكتاب "مفردات القرآن" للفراهي مصنفاته رصدا دقيقا، محددا المطبوع منها والمخطوط، وبلغ بجملتها واحدا وخمسين مصنفا؛ عشرون منها مطبوعة، وبقيتها لا تزال مخطوطة، وجل المطبوع منها في حكم المخطوط؛ إذ لم يطبع إلا طبعة أو اثنتين منذ زمان طويل، ونشر في الهند، وطبع بالخط الفارسي على الطريقة الهندية (الأشبه بخط اليد). وما يهمنا هنا أن نشير إلى مصنفاته القرآنية:
أولا: مصنفاته في التفسير
* المطبوع:
- تفسير فاتحة نظام القرآن (مقدمة تفسيره: نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان). تفسير الفاتحة والبسملة. تفسير سورة البقرة (62 آية منها، في 65 فصلا، ونحو 300 صفحة. ط1/1420هـ -2000م). تفسير سورة الذاريات (50 صفحة). تفسير سورة التحريم. تفسير سورة القيامة (22 صفحة). تفسير سورة المرسلات (20 صفحة). تفسير سورة عبس (25 صفحة). تفسير سورة الشمس. تفسير سورة التين. تفسير سورة العصر. تفسير سورة الفيل. تفسير سورة الكوثر. تفسير سورة الكافرون. تفسير سورة اللهب (29 صفحة). تفسير سورة الإخلاص (وهي السورة الوحيدة التي كتب تفسيرها بالأردية).
* المخطوط:
- تفسير سورة آل عمران (31 آية). تعليقات في التفسير (جمعها محمد أجمل أيوب الإصلاحي من حواش سجلها الفراهي على نسختين من المصحف الشريف في أثناء قراءاته في السفر والحضر). جزء من سورة الحج. مذكرات القرآن (ذكره محمد عناية الله أسد سبحاني في كتابه "إمعان النظر في نظام الآي والسور" (ط1/2003م).
ثانيا: مصنفاته في علوم القرآن
* المطبوع:
- دلائل النظام (127 صفحة، ط1/1388هـ). مفردات القرآن (475 صفحة، بتحقيق محمد أجمل أيوب الإصلاحي، ط1/2002م). إمعان في أقسام القرآن (147 صفحة، ط1/1415هـ-1994م). التكميل في أصول التأويل (69 صفحة، ط1/1388هـ). مجموعة رسائل الفراهي. أساليب القرآن.
* المخطوط:
- أساليب النزول. أوصاف القرآن. تاريخ القرآن. حجج القرآن (ذكر في "تفسير سورة الفاتحة" أنه طبع للمرة الأولى 2003م). حكمة القرآن. فقه القرآن. الرسوخ في معرفة الناسخ والمنسوخ.
جدير بالذكر أن معظم ما نشره الفراهي من مؤلفات كان باللغة العربية التي شغف بها، وآثرها على لغته الأصلية، وحينما سئل عن سبب كتابته بالعربية مع حاجة قومه إلى الكتابة بالأردية، قال: (أردت لكتبي الخلود).
نظرية (نظام القرآن)
انقطع الفراهي فترة طويلة من عمره إلى تدبر القرآن ودرسه، والنظر فيه من كل جهة، وكان من أعظم ما اهتم به ترتيب بيانه، وتنسيق نظام آياته، منطلقا من أن كل ما تقدم من سوره وتأخر، إنما بني على الحكمة والبلاغة، ورعاية مقتضى الكلام، فلو قدم ما أخر، أو أخر ما قدم؛ لبطل النظام، وفسدت بلاغة البيان. وقد أداه تدبره هذا في كتاب الله وحسن قراءته إياه إلى استنباط ما سماه بـ (علم النظام) وتحديد أصوله، وذلك بعد أن نظر في ما قاله علماء القرآن في التناسب والترابط المحفوف بهما كلام الله تعالى (آيات وسور)، فوجده -بحسب قوله- غير كاف ولا شاف على ما فيه من أهمية (الكشوف الأولى) إذا صح التعبير! ولذلك عمل على تطويره وتعميقه حتى يجعل منه فنا مستقلا قائما على أصول راسخة، وقواعد واضحة مستنبطة من أساليب القرآن وقواعد اللسان، وجاء في تقريره بما لم يهتد إليه أحد ممن سبقه؛ مما يفتح للمتدبرين في كتاب الله بابا عظيما لفهم أسراره وبلاغته، ويسهل عليهم الانتفاع به علما وعملا.
وقد ألمح إلى أن اهتمام السابقين كان منحصرا في الكشف عن المناسبة التي ينتظم بها الكلام من أوله إلى آخره حتى يصير بها شيئا واحدا. ورأى أنهم قنعوا في ذلك بمجرد بيان المناسبة بينهما، من غير أن ينظروا -في غالب أعمالهم- إلى أمر عام شامل ينتظم به محتوى الآية أو السورة، ومن أجل ذلك اهتم في (دلائل النظام) بالتفرقة بين (التناسب) و(النظام)، منبها إلى أن ما يعنيه بـ (النظام) ليس مجرد تناسب؛ وفي تقرير هذا يقول: "قد صنف بعض العلماء في تناسب الآيات والسور، أما الكلام في نظام القرآن فلم أطلع عليه، والفرق بينهما أن التناسب إنما هو جزء من النظام؛ فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئا واحدا مستقلا بنفسه، وطالب التناسب ربما يقنع بمناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها؛ فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بعد منها، ولولا ذلك لما عجز الأذكياء عن إدراك التناسب".
وأوضح الفراهي "أن المراد بـ (النظام) أن تكون السورة كلا واحدا، ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة، أو بالتي قبلها أو بعدها على بعد منها، فكما أن الآيات ربما تكون معترضة، فكذلك ربما تكون السورة معترضة"، وبناء على هذا الأصل رأى "أن القرآن كله كلام واحد، ذو مناسبة وترتيب في أجزائه، من الأول إلى الآخر؛ فتبين مما تقدم أن (النظام) شيء زائد على (المناسبة) وترتيب الأجزاء". فلا جرم إذن أن تعدل معرفة النظام والربط عند الفراهي نصف القرآن! فمن فاته النظام والربط فاته شيء كثير من فهم روح القرآن، فبـ (النظام) يتبين - بحسب الفراهي- سمت الكلام، والانتفاع بالقرآن، والاستفادة من موقوفه على فهمه، ولا يمكن فهم الكلام إلا بالوقوف على تركيب أجزائه، وبيان تناسب بعضها لبعض؛ لأن الاطلاع على المراد من معاني الأجزاء لا يتأتى إلا بعد الوقوف على الناحية التأليفية ومواقع كل جزء منها.
وتأسيسا على ما تقدم، يؤكد الفراهي "أن نظام القرآن ليس مقصودا لذاته، وإنما هو المنهاج الصحيح لتدبر القرآن، وهو المرجح عند تضارب الأقوال، وهو المعين عند تعدد الاحتمالات، وهو الإقليد الذي تفتح به كنوز القرآن".
في تفسيره "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان" حاول الفراهي تطبيق نظريته في (النظام) التي عرض لها في كتابه "دلائل النظام" عمليا، ووضع لذلك عنوانا عاما هو: "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان"، وأنجز بالفعل تفسير عدد من السور، اختارها قصدا؛ لما أشكل من نظامها أو أساليبها على كثير من المفسرين، وليحاول من ثم تطبيق نظريته عمليا، ويبدو أنه كان ينوي إكمال تناول القرآن المجيد كاملا على هذا النسق، ولكن الأجل اخترمه قبل أن يحقق ذلك.
كانت سبيله في معرفة (النظام) -بحسب الكيفية التي بينها في "دلائل النظام"- تبدأ بالسعي إلى استخراج ما سماه: (عمود السورة)، الذي يعني به "العنوان الرئيس للسورة من القرآن"؛ فمعرفته تؤدي إلى معرفة نظام القرآن كله، ولم يكن يعتمد في استخراج هذا العمود على حشد الأقاويل والروايات التي تملأ كتب التفسير؛ بل كان يعمد مباشرة إلى تدبر القرآن، والنظر في معانيه وأهدافه نظر المطلع الخبير؛ ليهديه هذا التأمل المجرد إلى معرفة العمود، ومن ثم إدراك النظام. وقد صرح بصعوبة هذه العملية المعرفية لاستخراج (عمود السورة)، ثم عدد أهم أسباب هذه الصعوبة، والتي يمكن تلخيصها في كون القرآن نزل متشابها مثاني، وأن الكتاب نزل بالحكمة التي لا تتأتى بمجرد إلقاء المعارف، بل بإعمال الفكر والعقل، ثم كون ما جاء به القرآن من نهاية الإيجاز هو مدار الإعجاز.
وكان جل اعتماده في "تفسيره" هذا على القرآن نفسه، ويظهر هذا من تسميته إياه بـ "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان"، فعطف "تأويل الفرقان" على "نظام القرآن" عطف العام على الخاص، وقدم "النظام" الخاص تنويها بشأنه، وتنبيها إلى إغفال الناس عنه مع أهميته البالغة في فهم القرآن. ثم اعتمد صحاح الأحاديث في التفسير، واعتنى بتحقيق ألفاظ القرآن وأساليبه، بتعمق وفحص لمقولات الأسبقين، ولم يعرج على الإسرائيليات المنقولة في كتب التفسير، بل رجع إلى الصحف الموجودة بأيدي اليهود والنصارى، ولا سيما أنه درسها دراسة نقدية متعمقة، مع معرفته باللغة العبرانية، واطلاعه على الدراسات التي قامت حولها في الغرب.
وبما تقدم يتبين مدى الخسارة التي لحقت بالأمة -كما يقول سليمان الندوي- برحيل الشيخ الفراهي رحمه الله قبل أن يتم إنجاز "تفسيره" هذا!