قواعد في التعامل مع أحاديث الفتن (2)

0 128

تقدم الكلام عن الضابط السابق المتعلق بتنزيل أحاديث الفتن، وهو التثبت من صحة النصوص، والاستعانة بالنصوص والقرائن الواضحة في تنزيل أحاديث الفتن، وبقيت مجموعة من ضوابط التنزيل نستكملها في هذا المقال، ومنها: 

الضابط الثاني: التحقق من الواقع:
وهذا الضابط ذكره العجيري في كتابه معالم ومنارات في تنزيل أحاديث الفتن والملاحم، وبالمناسبة فقد ذكر في هذا الكتاب أربعا وعشرين معلما لتنزيل أحاديث الفتن وأشراط الساعة.

فثبوت النص في الفتن والملاحم ليس كافيا لتنزيله على أي واقعة أو حادثة، بل لا بد من تطابقه مع الواقعة التي يراد إسقاط النص عليها، وإلا كان مزلة أقدام.
فالنبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن صياد التي في الصحيحين خرج إليه بنفسه يتحقق من أوصافه، وقال لعمر لما أراد قتله: إن يكن هو لا تسلط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله.
عن مجاهد عن عبد الله ابن عمرو، قال: سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول: يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه ‌أصيلع أفيدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح.
قال مجاهد: فلما هدمها ابن ‌الزبير جئت لأنظر أرى ما قال فيه، فلم أر مما قال شيئا. وهذا هو الشاهد، فقد خرج بنفسه ينظر في تطابق الخبر مع الواقع، فلم يجده مطابقا فكف عن تنزيله.
وقد حصل التوهم لبعض السلف بأن عمر بن عبد العزيز هو المهدي، ففي الطبقات الكبرى عن عبد الجبار بن أبي معن قال: سمعت سعيد بن المسيب، وسأله رجل، فقال له: يا أبا محمد من المهدي؟ فقال له سعيد: أدخلت دار مروان؟ قال: لا، قال: فادخل دار مروان تر المهدي، قال: فأذن عمر بن عبدالعزيز للناس، فانطلق الرجل حتى دخل دار مروان، فرأى الأمير والناس مجتمعين، ثم رجع إلى سعيد بن المسيب، فقال: يا أبا محمد دخلت دار مروان فلم أر أحدا أقول هذا المهدي، فقال له سعيد بن المسيب وأنا أسمع: هل رأيت الأشج عمر ابن عبدالعزيز القاعد على السرير؟ قال: نعم، قال: فهو المهدي.
وروى أبو نعيم في الفتن عن أبي قلابة قال: عمر بن عبدالعزيز هو المهدي حقا.
ولكن من نظر إلى الأوصاف والواقع أنكر ذلك، فعن إبراهيم بن ميسرة قال: قلت لطاووس: عمر بن عبد العزيز المهدي؟ قال: لا؛ إنه لم يستكمل العدل كله. رواه أبو نعيم في الفتن.
والشاهد أن طاووس بن كيسان رحمه الله نظر في الواقع فلم يجده متطابقا مع الحديث تمام المطابقة؛ فإن المهدي يملأ الأرض عدلا، وهذا لم يحصل بتمامه في عهد عمر بن عبد العزيز.
وذلك أن الواقع قد يكون فيه بعض الصفات الواردة في الحديث، فيتسرع البعض في التنزيل، من غير نظر في تمام الأوصاف ومطابقتها، ومن هنا ظهرت كثير من الأخطاء والتعجلات.
ومما يدخل في هذا: ما ذكره العلامة صديق حسن خان في كتاب الإذاعة لما كان وما سيكون بين يدي الساعة: في حديث الرايات السود المروي في مسند الإمام أحمد وغيره: إذا رأيتم ‌الرايات ‌السود خرجت من قبل خراسان فأتوها ولو حبوا، فإن فيها خليفة الله المهدي أن بعض علماء الهند أنزلوا هذا الحديث على خروج السيد أحمد البريلوي، مع أنه كان صالحا، ولم يدع المهدوية، وقد أنكر صديق حسن خان هذا التنزيل، وقال عنه: إنه تكلف بارد!
وأيضا: حصل لبعضهم تنزيل حديث فتح القسطنطينية على زمن معاوية، كما نقل ذلك الترمذي بعد روايته للحديث: فتح ‌القسطنطينية مع قيام الساعة قال ‌محمود أي ابن غيلان شيخ الترمذي: هذا حديث غريب، والقسطنطينية هي مدينة الروم تفتح عند خروج الدجال، والقسطنطينية قد فتحت في زمان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فأنكر ابن كثيرهذا التنزيل في كتاب النهاية في الفتن والملاحم فقال: هكذا قال -يعني محمود ابن غيلان- إنها فتحت في زمن الصحابة، وفي هذا نظر، فإن ‌معاوية بعث إليها ابنه يزيد في جيش فيهم أبو أيوب الأنصاري ولكن لم يتفق أن فتحها وحاصرها مسلمة بن عبد الملك بن مروان في زمان دولتهم ولم تفتح أيضا، ولكن صالحهم على بناء مسجد بها.
 
الضابط الثالث: مراعاة المصالح والمفاسد في التنزيل:
ففي معرض التنزيل لأحاديث الفتن لا بد للعالم من الموازنة والمقاربة للمصلحة ودرء المفسدة، فليس كل الناس تبلغها عقولهم، بل ربما كان في بثها وتنزيلها فتنة وبلاء، ويدل على ذلك موقف أبي هريرة، كما روي عنه رضي الله عنه قوله: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين: أما أحدهما فبثثته فيكم؛ وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم".
قال شيخ الإسلام بن تيمية في مجموع الفتاوى: "كان في ذلك ‌الجراب أحاديث الفتن التي تكون بين المسلمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما سيكون من الفتن التي تكون بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار، ولهذا لما كان ‌مقتل ‌عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك: قال ابن عمر: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتهدمون البيت، وغير ذلك لقلتم: كذب أبو هريرة، فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها؛ لأن ذلك مما لا يحتمله رءوس الناس وعوامهم".
لا سيما وأن أحاديث الفتن ليست من أصول الدين، ولا من معالم الحلال والحرام، فلهذا يغتفر للعالم فيها التأخير والكتمان إذا رأى المصلحة في ذلك، فالجهل ببعض تلك الأحاديث لا ينقص من إيمان الناس ولا من عملهم، وإلا لما جاز لأبي هريرة أن يكتمها، وكذلك فعل حذيفة، فقد كان يقول لهم حين يطلبون منه تحديثهم عن الفتن: "لو أني أحدثكم بكل ما علمت لقتلتموني". رواه ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد جيد.
 
الضابط الرابع: التأني في التنزيل وعدم التعجل:
يقول العجيري في معالم ومنارات: "إن عملية تنزيل مثل هذه النصوص على الواقع مسألة دقيقة، تحتاج إلى تتبع للنصوص والنظر في ثبوتها ومعانيها وسبر ما فيها إضافة إلى معرفة بالواقع ومقارنة بين الوارد في هذه النصوص وطبيعة الواقع، وهي من ثم تحتاج إلى شيء من الوقت من أجل الإنضاج فإذا استعجل عليها وأخرجت قبل الإنضاج فسدت وأفسدت".
وقد كان السلف أكثر الناس تأنيا في تفسير وتنزيل أحاديث الفتن؛ لما يعلمون من خطورة التعجل فيها، فقد يتسبب ذلك في وقوع الفساد بين الناس، فضلا عن أن ذلك من القول على الله وعلى رسوله بغير حق.
ففي حلية الأولياء عن حفص بن غياث قال: قلت لسفيان الثوري: "يا أبا عبدالله، إن الناس قد أكثروا في المهدي، فما تقول فيه؟"، قال: "إن مر على بابك فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه".
وفي هذا الكلام الذي قاله سفيان من التأني والتثبت الشيء الكبير، فقد أرشد السائل أن مجرد ظهور المهدي ومروره من الباب لا يكفي لمبايعته واتباعه، بل لا بد أن يجتمع الناس عليه، ويتضح أمره للجميع، وأولهم العلماء والحكماء وأهل الرأي.
وشواهد التاريخ والواقع اليوم كثيرة على خطأ التعجل في تنزيل أحاديث المهدي خصوصا بمجرد حصول الاشتباه بأسمائهم أو صفاتهم، دون التحقق من الصفات الأخرى، أو النظر في السياق الذي سيكون فيه ظهور المهدي، من نزول المسيح، وخروج الدجال، فحصل بسبب ذلك اضطرابات وانحرافات كبيرة، وتحول مدعو المهدوية إلى زعماء في الضلالة، يستحلون دماء الناس وأعراضهم، ويكفرون من لم يؤمن بهم ويصدقهم.

وعلامة التعجل تتمثل في عدم الرجوع إلى أهل العلم في تنزيل أحاديث الفتن، بل يتفرد بعضهم بالحكم، ويقطع بالمعنى، دون بصيرة أو مشاورة، وهذا أساس في الانحراف، وقد كان الواحد من أهل العلم يراجع علماء عصره ويسألهم، ويشاورهم، فعصمهم الله من الزلل بسبب ذلك.
 
كما روي عن طاووس أن رجلا اعترض لأبي موسى الأشعري فقال: هذه الفتنة التي كانت تذكر؟ وذلك حين افترق هو وعمرو بن العاص رضي الله عنهما حين حكما، فقال أبو موسى: "ما هذه إلا حيصة من حيصات الفتن، وبقيت الرداح المطبقة، من أشرف لها أشرفت له، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، والصامت خير من المتكلم، والنائم خير من المستيقظ". رواه نعيم بن حماد في الفتن وإسناده صحيح.
 
وروي عن أبي عمرو الشيباني قال: كنت مع حذيفة بن اليمان في المسجد، إذ جاءه أعرابي يهرول حتى جثا بين يديه، فقال: أخرج الدجال؟ فقال حذيفة: "أنا لما دون الدجال أخوف من الدجال، وما الدجال، إنما فتنته أربعون يوما". رواه نعيم بن حماد في الفتن وإسناده قوي.
 
وروي عن حكيم بن سعد قال: لما قام سليمان، فأظهر ما أظهر، قلت لأبي يحيى: هذا المهدي الذي يذكر، قال: لا. رواه ابن أبي شيبة في المصنف
وفي حديث أبي نضرة قال: كنا عند جابر بن عبد الله فقال: "يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذاك، ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدي، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم ثم سكت هنية، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعده عددا قال: قلت لأبي نضرة وأبي العلاء: أتريان أنه عمر بن عبد العزيز فقالا: لا. رواه مسلم.
والشاهد في هذه المرويات أنهم كانوا يسألون ويشاورون العلماء في تنزيل أحاديث الفتن، فذلك هديهم وتلك طريقتهم، وهو السبيل الذي ينبغي في كل زمان، لا سيما في القضايا المصيرية التي تمس أمن المجتمعات وعلاقاتها السياسية والاقتصادية.
 
الضابط الخامس: أحاديث الفتن ليست مستوعبة لكل الفتن والأحداث:
نجد البعض يستعظم بعض الفتن والأحداث المعاصرة فيظن أن مثل هذه الحادثة لا بد لها أن تكون منصوصا عليها، فيبدأ رحلة البحث والتكلف، والربط بينها وبين نصوص بعيدة، مع أن المتأمل يجد أن الوحي لم يخبر بكل فتنة ستحصل، فقد حصلت وستحصل حوادث عظيمة ولا ذكر لها في تلك النصوص المروية، فلا ينبغي أن يحملنا ذلك على لي أعناق النصوص وتطويعها لا ستيعاب تلك الوقائع والأحداث.
 
يقول العجيري: : "من نظر فيما مر بالأمة من أحداث جسام علم صحة هذا، وأن الله قد يقدر على العباد أمورا ولا يخبرهم بها، فقد هدمت الكعبة في عهد الحجاج، واعتدي على الحجيج في المسجد الحرام، وأخذ الحجر الأسود أيام القرامطة، ووقعت الحروب الصليبية، واحترق المسجد الأقصى في ظل الاحتلال، وليس فيما بين أيدينا من النصوص الصحيحة إشارة إلى مثل هذه الحوادث، فلا يصح والحالة هذه أن نفتعل صلة بين النصوص وهذه الحوادث فنحملها ما لا تحتمل، أو نلوي أعناقها لتدل عليها، وهذه حالة كثير من الكتاب في هذا الباب، ما إن تلم بالمسلمين فتنة أو مصيبة إلا ويبادرون بإخراج الكتاب تلو الكتاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها كذا وكذا، وقال فيها كيت وكيت، فإذا قرأت وفتشت لم تجد صلة بين الأمرين، ووجدت جهلا وتعالما وسوء فهم يناسب أحوال أولئك الكتاب والله المستعان، ومما يؤكد هذا الإشكال وسيطرته على نفوس بعضهم ما قاله فاروق الدسوقي في القيامة الصغرى على الأبواب مثلا: "كل هذا جعلني على يقين أنني أمام حدث جلل غير عادي لا بد أن في السنة الشريفة عنه خبرا أو أخبارا" ، فمثل هذه النفسية في بحث المسألة مما سيؤدي بصاحبه إلى انحراف في تصور نصوص الشارع وفهمها ومن ثم انحرافا في تطبيقها على الواقع وتنزيلها، ومما سبق تعلم خطأ ما قاله الآلوسي في تفسيره: "بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزمان إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها، فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت"  والله أعلم".

فهذه جملة من القواعد والضوابط التي ينبغي رعايتها في التعامل مع أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة، ومن رجع إلى شروح الأحاديث، وتأمل مواقف الصحابة والتابعين والذين بعدهم من الفتن التي عاصروها، وكيف تعاملوا معها، فإنه يتحصل له بذلك جملة من الضوابط العاصمة، فالعلماء ببصيرتهم الشرعية، وخبرتهم الواقعية، يحسنون التعامل مع تلك النصوص، وغيرهم يأتيه الخلل إما من قلة علمه بالشرع، أو من ضعف إدراكه للواقع، أو منهما جميعا. 
  

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة