المتأوّل وضابط بلوغ الحجة

0 112

ذكر ابن تيمية أن مصطلح التأويل يستعمل في ثلاثة معان هي: التأويل بمعنى التفسير "وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن"، والتأويل بمعنى "الحقيقة التي يؤول إليها الكلام"، والتأويل عند كثير من الفقهاء والأصوليين: "هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها"، وهذا النوع من التأويل هو المراد في هذا المقام، ومن أمثلته: من أول بعض صفات الله تعالى مستندا إلى اللغة، وأن في عدم تأويلها تشبيها لله تعالى بخلقه، فكانت شبهته في تأويله تنزيه الله تعالى، وذلك كمن فسر صفة اليد بأنها النعمة وغير ذلك، فهذا التأويل وإن كان صاحبه يخالف ما عليه سلف الأمة في تفسير نصوص الصفات؛ إلا أنه معذور في تأويله لها بما قامت عنده من شبهة صرف لأجلها النص عن ظاهره بما تحتمله لغة العرب التي نزل بها القرآن.

وحكم هذا المتأول الذي صرف اللفظ إلى غير معناه حكم الجاهل الذي يعذر بالخطأ، بل قد يكون هذا المتأول أولى بالإعذار من الجاهل؛ ذلك أن الجاهل يجهل الحق فقط، أما المتأول فهو مع مخالفته للحق يدعي أن ما هو عليه هو الحق نفسه، وبهذا نعلم أن من كانت مخالفته للحق لمجرد الجهل به فإنه يكفي في قيام الحجة عليه مجرد بلوغ الحجة، أما المتأول فلا يكفي لقيام الحجة عليه بلوغ الحجة، بل لا بد من فهمها الفهم الذي تزول معه كل شبهة معتبرة، وهذا الذي عليه سلف الأمة قاطبة.

ولا بد في هذا المقام من بيان أمر في غاية الأهمية عند الكلام عن المتأول، وهو ضرورة التفريق بين بلوغ الحجة وفهم الحجة، فيظن من غالى في التكفير أن قيام الحجة على المعين يكون بمجرد بلوغ الحجة إياه، سواء كان عنده شبهة في فهمها أم لا، وعليه لا يعذر عندهم أحد بالشبهة بعد بلوغ الحجة إليه، ويستدلون على هذا الإطلاق بأدلة من كتاب الله تعالى، منها: 

قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} [الإسراء: 46]، وقوله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (105)} [الكهف: 103 - 105]، وقوله تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 44] إلى غيرها من الآيات التي حكم الله تعالى فيها بالكفر على من لا يسمعون ولا يعقلون، وعلى من يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وظن من استدل بهذه الآيات أن هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى قد قامت عليهم الحجة بمجرد بلوغها إياهم؛ فأطلق هذا الأصل على كل من بلغته الحجة ثم خالفها أنه لا يعذر بعد ذلك بجهل أو بشبهة تأول، ولم يفرق بين بلوغ الحجة وفهم الحجة، أو بين فهم الدلالة وفهم الهداية.

فهؤلاء الذين قضى الله بكفرهم وجعل النار مصيرهم قد قامت عليهم حجة فهم الدلالة التي هي مناط تكليف عموم الناس مؤمنهم وكافرهم، ولكن ليس كل من قامت عليه حجة فهم الدلالة يهتدي بها وينتفع بها، "فالفهم المشروط في قيام حجة الله على العباد غير الفهم الذي هو مقتضى هداية الله تعالى وتوفيقه، والشبهة التي تتعلق بفهم الحجة غير الشبهة التي هي لعدم الهداية ولو بلغت الحجة، وهذا فرق ظاهر". فالآيات التي يستدل بها من لم يفرق بين هذين الأمرين إنما جاءت في سياق نفي الفهم والعقل الذي هو مقتضى الهداية، يدل على هذا أن الله تعالى قد نفى عنهم السمع والبصر وهم كانوا يبصرون ويسمعون فعلم أن المراد بالمنفي هنا إنما هو السمع والبصر المقتضي للهداية، وكذلك يقال في العقل والفهم المنفي عنهما أيضا لا أنهم مجانين غير مكلفين.
 
يقول ابن القيم في قوله تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23]: "أخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم، فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته"، وقال الشيخ السعدي: "والسمع الذي نفاه الله عنهم سمع المعنى المؤثر في القلب، وأما سمع الحجة فقد قامت حجة الله تعالى عليهم بما سمعوه من آياته، وإنما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع آياته".
 
وذلك الذي جاء في الآيات يختلف عن حال المتأول الذي وصلته الحجة لكنه لم يفهم حقيقتها لما قام في نفسه حولها من شبه، فمجرد وصول الحجة إليه لا يكفي وحده أصلا للحكم عليه بالكفر أو دونه، فقد يخالف المعين الحجة التي وصلته لا عن رد وتكذيب لها، وإنما لما قام في نفسه من شبه حولها ظن معها أنه على الحق، فيكون بذلك معذورا، وهو مخطئ في تأوله، وهذا الذي عليه سلف الأمة، فإنهم وإن أطلقوا الكفر على قول كذا وكذا، لكنهم لم يكونوا يكفرون صاحبه، ففرقوا بين تكفير المطلق وتكفير المعين، فالإمام أحمد مثلا أطلق القول بكفر من قال بخلق القرآن، ولكنه لم يكفر المعينين منهم لما قام عندهم من الشبه التي حملتهم على القول بذلك.
 
يقول ابن تيمية في ذلك: "الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ؛ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها". فكلام ابن تيمية يدل على أن الحجة لا تقوم على المعين بمجرد بلوغها، ولا بمجرد فهمها مع وجود شبهة عنده حول دلالتها، بل لا تقوم الحجة على المعين في مخالفتها بمجرد بلوغها حتى يفهمها فهما تنتفي معه كل شبهة حولها، وإلا لكان السلف قد حكموا بكفر كثير من المتكلمين الذين قالوا بتأويل نصوص صفات الله تعالى، وما منعهم من ذلك إلا أن القوم قد قامت عندهم شبه حملتهم على تأويلها منها: تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه.
 
يقول ابن تيمية: "إن التكفير له شروط وموانع قد تنتقي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين؛ إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه...، ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع". فهذا الإمام أحمد لم يكفر من قال بخلق القرآن ولا من دعا لذلك القول مع أنه قد بلغهم الحجة، ولكن لما قامت عندهم شبهات منعتهم من فهمها على حقيقتها لم يقل بكفرهم، لا سيما وأنهم لم يقصدوا بذلك رد الحجة ولا تكذيبها.
 
بهذا يتبين لنا أنه لا يكفي في المعين بلوغ الحجة، بل لا بد من فهم تلك الحجة، وألا تعرض له شبهات معتبرة تمنعه من اعتقاد ما هو مقتضى تلك الحجة، وإلا كان متأولا معذورا، سواء في مسائل العقيدة أم فيما هو دونها من الفروع.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة