- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من البعثة إلى الهجرة
الابتلاء سنة من سنن الله عز وجل في حياة البشر منذ بدء الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، للتمحيص والاختبار، والتمييز بين الصادق والكاذب، وتلك السنة ما نجا منها نبي، ولا غابت عن حياة مؤمن، قال الله تعالى: {الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}(العنكبوت:3:1). قال الطبري: "{وليعلمن الكاذبين} منهم في قيلهم ذلك، والله عالم بذلك منهم قبل الاختبار، وفي حال الاختبار، وبعد الاختبار، ولكن معنى ذلك: وليظهرن الله صدق الصادق منهم في قيله آمنا بالله، من كذب الكاذب منهم بابتلائه إياه بعدوه، ليعلم صدقه من كذبه.. وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين عذبهم المشركون، ففتن بعضهم، وصبر بعضهم على أذاهم حتى أتاهم الله بفرج من عنده". وقال ابن كثير: "قوله: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} استفهام إنكار، ومعناه: أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان". وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا (قويا) اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة (ضعفا)، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة) رواه أحمد.
ومن المعلوم والثابت في السيرة النبوية أن المرحلة المكية استمرت ثلاث عشرة سنة، وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس فيها ـ سرا وجهرا ـ إلى عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، وقد تعرض الصحابة رضوان الله عليهم للاضطهاد والتعذيب الشديد على يد أئمة الكفر من قريش في هذه المرحلة. قال ابن هشام وغيره في "السيرة النبوية": "فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم". وقد استخدمت قريش في المرحلة المكية أساليب متعددة في محاربة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، للحيلولة دون دخول الناس في الإسلام، ومن هذه الأساليب أسلوب التهديد والوعيد، فلما لم يفلحوا انتقلوا إلى أسلوب الإغراء والترغيب، ثم انتقلوا إلى الإيذاء والتعذيب، ومع ذلك كله فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم كانوا صابرين لأمر ربهم، ثابتين على الحق، ماضين في طريق دينهم ودعوتهم..
التهديد والوعيد، والترغيب والإغراء:
ـ من الأساليب التي اتخذتها قريش في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم التهديد والوعيد له ولأصحابه، والذي تختلف صوره على حسب الشخص، حتى يتراجع عن دينه الذي يتمسك به ويدعو إليه. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو فعل ذلك لأخذته الملائكة عيانا) رواه البخاري. وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" وابن هشام في "السيرة النبوية": "وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش، إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك؟! لنسفهن حلمك، ولنفيلن (لنقبحنه ونخطئنه) رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به".
ـ ولما لم تفلح قريش في أسلوب التهديد للنبي صلى الله عليه وسلم، انتقلوا إلى أسلوب الترغيب والإغراء، فعرضوا عليه المال والشرف والملك، لعله يرجع عن الدين الذي جاء به، أو يتنازل عن بعض الحق الذي يدعو إليه. ذكر ابن هشام في "السيرة النبوية"، والبيهقي في "دلائل النبوة"، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "أرسلت قريش عتبة بن ربيعة - وهو رجل رزين هاديء - فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها، إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا، فلا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا (مس من الجن) تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ .. فلما فرغ قوله تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه صدر سورة فصلت: {حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون}(فصلت:7:1)، حتى وصل إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}(فصلت:13)". وفي رواية لابن كثير في "البداية والنهاية": (وأنه لما قال: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}(فصلت: 13)، أمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش! ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد، وأعجبه كلامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه، فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة! ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة، جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد فغضب، وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا، وقال: لقد علمتم أني أكثر من قريش مالا، ولكني أتيته - وقص عليهم القصة - فأجابني بشيء والله! ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة - وقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم حم * تنزيل من الرحمن الرحيم} حتى بلغ: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}(فصلت:13)، فأمسكت بفيه (فمه)، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب".
لقد أغرى المشركون النبي صلى الله عليه وسلم بالمال والشرف والملك، لعله يرجع عن الدين الذي جاء به، أو يتنازل عن بعض الحق الذي يدعو إليه، لكنه صلى الله عليه وسلم ثبت كأنه جبل أشم، أمام هذه الإغراءات والمساومات ولم يناقشها، بل قال في وضوح وحسم وثبات ـ كما ذكر ابن هشام وغيره: "ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم"..
الإيذاء والتعذيب:
في المرحلة المكية: لم يقتصر الأمر على مجرد التهديد والوعيد، والإغراء والترغيب، بل تعداه إلى أسلوب الأذى والتعذيب للنبي صلى الله عليه وأصحابه رضوان الله عليهم. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة وجمع قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى سلا جزور (جلد بعير مذبوح) آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها (رجيعها وما في بطنها) فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي ساجدا فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام وهي جويرية (صغيرة) فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه) رواه البخاري. وسأل عروة بن الزبير رضي الله عنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم}(غافر:28)) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم دروع الحديد، وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادو، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه، فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد، أحد) رواه ابن ماجه وأحمد.
وذكر ابن هشام في "السيرة النبوية" عن سعيد بن جبير قال: "قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهد (تعب ومشقة)".
ولما اشتد تعذيب المشركين للمسلمين من الصحابة المستضعفين، ذهب خباب بن الأرت رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ويطلب منه الدعاء له ولأصحابه فقال خباب: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له (تحت رأسه كساء أسود مربع) في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟، قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت (مدينتان باليمن)، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري. (لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه) أي: لا يخاف شيئا إلا الله تعالى، أو يخاف أن يأكل الذئب غنمه، أما المشركون فلا يخاف منهم، لأنهم إما أن يكونوا دخلوا في الإسلام، أو غلبوا وصاروا أذلة، ولكنكم تستعجلون نصر الله.. وفي حديث خباب رضي الله عنه: فتح باب الأمل والتفاؤل مهما اشتد البلاء، وفيه دليل من دلائل النبوة، حيث وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من تمام الدين، وانتشار الأمن، وإنجاز الله ما وعد نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك..
من أهم سمات التربية النبوية للصحابة رضوان الله عليهم في المرحلة المكية: الصبر والثبات أمام المحن والابتلاءات، مع التفاؤل والتطلع للمستقبل المشرق الذي ينصر الله عز وجل فيه الإسلام، والتعلق بما أعده الله لهم في الجنة من النعيم.. وقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في الصبر والتضحية والثبات في هذه المرحلة المكية، وأصبحت مواقفهم قدوة للأجيال المتلاحقة على مر العصور والتاريخ حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا درس هام من دروس السيرة النبوية التي من فوائد دراستها استخراج الدروس والعبر للاستفادة منها في واقع حياتنا، ويحصل لنا التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبصحابته الكرام، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}(الأحزاب:21). قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته، ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين". وقال السعدي: "وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو الله، واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم". وقال الله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}(الأحزاب:23). قال الطبري: "{من المؤمنين} بالله ورسوله {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} يقول: أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضراء، وحين البأس {فمنهم من قضى نحبه} يقول: فمنهم من فرغ من العمل الذي كان نذره الله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض في غير ذلك من المواطن {ومنهم من ينتظر} قضاءه والفراغ منه، كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده، والنصر من الله، والظفر (الانتصار والظهور) على عدوه".