- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:مساوئ الأخلاق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإن الشرع المطهر قد رغب في الستر ونهى عن تتبع عورات الناس والبحث عن عيوبهم ليفضحهم بها بين الناس؛ صيانة للأعراض، وتطهيرا للمجتمع من الفواحش والآفات، وحفاظا على روابط المودة بين المسلمين. ومما يؤسف له أن بعض الناس يخالف هذا النهج ويعمل على هتك ستر الناس وتتبع عوراتهم، وقد ازداد هذا الأمر في زماننا من خلال كثير من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
الموت أهون من الافتضاح:
عقد العلامة العز بن عبد السلام رحمه الله فصلا في بعض كتبه وجعل ترجمته: تمني الهلاك دون الافتضاح، وذكر قول الله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: {قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} (مريم/ 23)، ويؤخد من هذا عظم أمر الفضح عند ذوي النفوس الأبية. وقال البغوي في تفسير الآية السابقة: تمنت الموت استحياء من الناس وخوف الفضيحة.
وقد رأينا في زماننا من انتحر لشائعة انتشرت عنه أو بسبب نشر صور له أو لها وثبت بعد موتهم أن الأمر لم يكن إلا كذبا وبهتانا.
حكم فضح المسلم:
عد العلامة ابن حجر رحمه الله، هتك ستر المسلم أو تتبع عوراته حتى يفضحه ويذله بها الناس من الكبائر مستدلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته". وعلل رحمه الله لذلك بقوله: لأن كشف العورة، والافتضاح، فيه من الوعيد ما لا يخفى.
إن إفشاء العيوب سبب لفشو الفاحشة، وانتشار الفساد والعداوات.
الستر أولى:
ففي قصة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه، عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف على نفسه بالزنى، وسأله أن يقيم عليه الحد ليطهره، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله مع من زنيت، وكذلك المرأة الغامدية، عندما أقرت على نفسها، لم يسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وفي إحدى روايات حديث ماعز، أنه جاء إلى أبي بكر الصديق، فقال له: إن الآخر زنى -يريد نفسه- فقال له أبو بكر: هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ فقال: لا. فقال له أبو بكر: فتب إلى الله، واستتر بستر الله؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده. فلم تقرره نفسه، حتى أتى عمر بن الخطاب، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر. فلم تقرره نفسه حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن الآخر زنى. فقال سعيد: فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أكثر عليه، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: "أيشتكي، أم به جنة؟" فقالوا: يا رسول الله، والله إنه لصحيح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكر أم ثيب؟" فقالوا: بل ثيب، يا رسول الله، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجم.
قال ابن عبد البر: (وفي هذا الحديث من الفقه: أن الستر أولى بالمسلم على نفسه -إذا وقع حدا من الحدود- من الاعتراف به عند السلطان، وذلك مع اعتقاد التوبة والندم على الذنب، وتكون نيته ومعتقده ألا يعود، فهذا أولى به من الاعتراف، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، ويحب التوابين).
وقد ورد في بعض الروايات أن رجلا اسمه هزال، هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا هزال، لو سترته بردائك لكان خيرا لك".
قال أبو الوليد الباجي: (وقوله صلى الله عليه وسلم لـهزال "يا هزال، لو ستــرته بردائك، لكان خيرا لك". هزال هذا هو: هزال بن رئاب بن زيد بن كليب الأسلمي. ويريد بقوله: "لو ستــرته بردائك، لكان خيرا لك" يريد: مما أظهرته من إظهار أمره، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر به، فكان ستره بأن يأمره بالتوبة، وكتمان خطيئته، وإنما ذكر فيه الرداء على وجه المبالغة، بمعنى أنه لو لم تجد السبيل إلى ستره إلا بأن تستره بردائك ممن يشهد عليه، لكان أفضل مما أتاه، وتسبب إلى إقامة الحد عليه، والله أعلم وأحكم).
ومن هنا كان الترغيب في ستر المسلمين والمسلمات.
فقال عليه الصلاة والسلام: "من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".
وفي الحديث أيضا: "من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
(قوله: "ومن ستر مسلما" أي رآه على قبيح فلم يظهره، أي للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه).
وقال الإمام النووي رحمه الله:
(في هذا فضل إعانة المسلم وتفريج الكرب عنه، وستر زلاته).
وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله:
(فإذا كان المرء يؤجر في الستر على غيره، فستره على نفسه كذلك أو أفضل، والذي يلزمه في ذلك التوبة والإنابة والندم على ما صنع، فإن ذلك محو للذنب إن شاء الله).
ويؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد".
قال الإمام النووي رحمه الله: المراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ، ممن ليس معروفا بالأذى والفساد .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في شرح الأربعين:
(من كان مستورا لا يعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة، فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها؛ لأن ذلك غيبة محرمة، وهذا هو الذي ورد في النصوص، وفي ذلك قال الله تعالى : {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} والمراد بإشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه واتهم به مما هو بريء منه.
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب.
ومثل هذا لو جاء تائبا نادما وأقر بحد لم يفسره، لم يطلب منه أن يفسره ، بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية، وكما لم يستفسر الذي قال : أصبت حدا فأقمه علي، ومثل هذا لو أخذ بجريمته ولم يبلغ الإمام ، فإنه يشفع له حتى لا يبلغ الإمام ، وفي مثله جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم . خرجه أبو داود والنسائى من حديث عائشة).
إياك والمجاهرة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه".
فإياك إياك أن تهتك ستر الله عليك، بأن تجاهر بمعصيتك أو تفاخر بها.
وإياك أن تتبع عورات الناس:
قال عليه الصلاة والسلام: "يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته".
وقال معاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم ، أو كدت أن تفسدهم". فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها.
فاستر إخوانك يسترك الله، وإياك وفضحهم فإنه لا طاقة لك بحرب الله، القادر على كشف عيوبك، وفضح ذنوبك، التي لا يعلمها الناس عنك، وألجم لسانك عن الخوض في الأعراض، وتتبع العورات، وإفساد صيت إخوانك، وإساءة سمعتهم.
نسأل الله تعالى أن يسترنا والمسلمين في الدنيا والآخرة.