التربية النبَوِيَّة في المَرْحَلة المَكِّيَة

0 196

المرحلة المكية هي المرحلة التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة المكرمة ومكثوا فيها قبل هجرتهم إلى المدينة المنورة، وقد امتدت هذه المرحلة قرابة ثلاثة عشر عاما، وكانت مرحلة شديدة تعرض فيها المسلمون للإيذاء والتعذيب، بهدف إرجاعهم إلى الكفر بعد الإسلام، لكنهم صبروا وثبتوا بفضل الله عز وجل ثم بفضل تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.. ومن أهم سمات التربية النبوية في المرحلة المكية ـ للصحابة رضوان الله عليهم ـ: بناء وترسيخ العقيدة الصحيحة، والصبر على الأذى، والثبات على الإيمان مع التفاؤل والتطلع إلى مستقبل مشرق طيب..

1 ـ التربية على العقيدة:
شاء الله عز وجل أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تصدى لها النبي صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول لبعثته، وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى خطواته في الدعوة بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم سبحانه، ويعبدهم له دون سواه.. عن ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين، يقول: "إنه صابئ كاذب"، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لي: هذا عمه أبو لهب) رواه أحمد. وقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال ثلاث عشرة سنة منذ بعثته يقرر العقيدة ويرسخها في نفوس أصحابه بمكة ويربيهم عليها، موجها أكثر جهده إلى تقرير التوحيد وترسيخه، ومن المعلوم أن الغالب في القرآن الكريم المكي ـ أي الذي نزل بمكة ـ تقرير التوحيد والعقيدة السليمة، وقد نزلت في المرحلة المكية السور التي تتحدث عن الله تعالى ووصف قدرته وجبروته، والسور التي تتحدث عن الكون والمخلوقات التي تدل على عظمة الخالق، والسور التي تتحدث عن الجنة والنار، وعن فوز المؤمنين وخسارة الكافرين، مثل سور الانفطار، والتكوير، والحاقة، والواقعة، والرحمن، وغيرها.. وكان الغالب في القرآن الكريم المدني تفصيل العبادات والمعاملات، لأن المخاطبين قد تقرر في نفوسهم التوحيد والعقيدة السليمة.. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص في المقام الأول على ترسيخ العقيدة الإسلامية في قلوب الصحابة وعقولهم، وتعزيز الجانب الروحي والإيماني لديهم، من خلال زرع الإيمان في نفوسهم، وتعريفهم بأركانه، وتقريبهم من الله عز وجل ومحبته والخوف منه، من خلال معرفة أسمائه وصفاته، وعظمته وقدرته، ورحمته وكرمه، ومغفرته وغضبه..

2 ـ التربية على الصبر والثبات على الإيمان:
بالإضافة إلى التربية النبوية للصحابة رضوان الله عليهم على العقيدة والتوحيد، فقد رباهم على الصبر والثبات على الإيمان، فالطريق للجنة طريق شاق صعب، مليء بالابتلاءات والاختبارات، والصراع بين الحق والباطل سيظل مستمرا إلى يوم القيامة، وإن اختلفت صوره وأساليبه على حسب الزمان والمكان، وأهل الإيمان لا بد أن يتعرضوا للفتن والابتلاء تمحيصا وإعدادا، قال الله تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}(البقرة:217)، وقال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}(العنكبوت:2)، وقال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}(آل عمران:142)..
إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم:
رأى النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء ما تضعف معه النفوس، وتخور معه العزائم، وتذهب معه القوى والعزيمة، فكان صلى الله عليه وسلم يصبر ويحتسب، راجيا أن يتم الله هذا الدين. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد) رواه الترمذي وصححه الألباني. (لقد أخفت) أي: لقد أخافني المشركون واضطهدوني، وحاربوني وحاولوا قتلي، (في الله) أي: في سبيل الله وأنا أدعو إلى دين الله، (وما يخاف أحد) أي: قبل أن يخيفوا أحدا غيري أو يضطهدوا أحدا غيري، (ولقد أوذيت في الله) أي: ولقد لحقني الأذى في سبيل الله، وأنا أدعو إلى دين الله حيث أصابني من المشركين الضرب والتسفيه والإيذاء وضيقوا علي، (وما يؤذى أحد) أي: وما نال أحدا الأذى غيري، وهذا في بداية الإسلام.. ولم يقتصر إيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم على مجرد الاستهزاء والإيذاء النفسي بسبه وشتمه، واتهامه بالسحر والكذب والجنون، بل تعداه إلى الإيذاء البدني. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة وجمع قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى سلا جزور (جلد بعير مذبوح) آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها (رجيعها وما في بطنها) فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي ساجدا فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام وهي جويرية (صغيرة) فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه) رواه البخاري. وسأل عروة بن الزبير عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم}(غافر:28)) رواه البخاري. ووصل الأمر إلى أن بصق عدو الله أمية بن خلف في وجه النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في بعض الروايات.. وقد ختم المشركون أذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم بمحاولة قتله في أواخر المرحلة المكية.
إيذاء الصحابة:
تعرض الصحابة رضوان الله عليهم للاضطهاد والتعذيب الشديد على يد أئمة الكفر من قريش في المرحلة المكية. قال ابن هشام وغيره في "السيرة النبوية": "فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم".. والمرحلة المكية من السيرة النبوية فيها الكثير من مواقف الأذى والابتلاء التي تعرض لها صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولاقوا فيه أشد أصناف العذاب، ورغم شدة الإيذاء والتعذيب الذي تعرض له الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ظلوا صابرين ثابتين على عقيدتهم ودينهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها:
بلال رضي الله عنه:
من هؤلاء الصحابة الكرام الذين تعرضوا للأذى والتعذيب بلال رضي الله عنه الذي مر بسلسلة مضنية من العذاب، وكان أمية بن خلف ـ عليه لعنة الله ـ يعذبه تعذيبا شديدا، فكان يضع في عنقه حبلا ثم يأمر الأطفال أن يسحبوه في شوارع وجبال مكة إلى أن ظهر أثر الحبل على عنق بلال رضي الله عنه، وكان يخرجه إذا حميت الظهيرة واشتد حرها فيطرحه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة التي لا يقوى على حملها إلا المجموعة من الرجال فتوضع على صدره، ثم يقول له: "لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى"، وبلال رضي الله عنه في ذلك البلاء والكرب الشديد يقول: "أحد، أحد". قال مجاهد: "جعلوا في عنق بلال حبلا وأمروا صبيانهم أن يشتدوا به بين جبلي مكة، ففعلوا ذلك وهو يقول: أحد أحد"، ويقول عروة: "كان بلال من المستضعفين من المؤمنين، وكان يضرب حين أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون" . ولم يكن هذا لمدة يوم أو يومين، بل كان لفترات طويلة، ولكن بلالا ـ رضي الله عنه صبر وثبت، إلى أن اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم أعتقه.
آل ياسر:
ومن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم الذين أوذوا وعذبوا عذابا شديدا آل ياسر رضي الله عنهم، فوالدا عمار ـ ياسر وسمية ـ عذبا تعذيبا شديدا، وكان أبو جهل يعذبهما بنفسه، وزاد العذاب فوق الحد، إلى أن وصل الأمر أن قتل ياسر وسمية رضي الله عنهما.. وشددوا العذاب على عمار رضي الله عنه بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطسه في الماء حتى كان يفقد وعيه. قال عمر بن الحكم: "كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول". وقال ابن هشام في "السيرة النبوية: " وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ـ وكانوا أهل بيت إسلام ـ إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة (الرمل الحار من شدة حرارة الشمس)، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة) رواه الطبراني.
ويصور لنا خباب رضي الله عنه مدى وشدة الأذى والبلاء الذي تعرض له الصحابة رضوان الله عليهم في مكة حين قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري. فهذا الأسلوب في الطلب من خباب رضي الله عنه حين قال: (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟) يوحي بما وراءه، وأنه صادر من قلوب أتعبها العذاب والبلاء، فهي تلتمس الفرج العاجل.. ومع ذلك أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الابتلاء سنة من سنن الله عز وجل في خلقه، فقال له: (كان الرجل فيمن قبلكم).. وكان النبي صلى الله عليه وسلم مع شدة البلاء الواقع عليه، يشعر بما يعانيه أصحابه من أذى وبلاء، ويتألم له، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه ومن يأتي بعدهم على أن الابتلاء من سنن الله، وأنه قبل النصر لابد من البلاء والصبر، فالرسل وأتباعهم يبتلون ثم تكون لهم العاقبة، قال الله تعالى: {حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}(يوسف:110)..
ومع تربيته صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه على الصبر والثبات عند الابتلاء كان يبث التفاؤل والثقة في قلوبهم، ويفيض عليهم مما أفاض الله عز وجل عليه من أمل مشرق في انتصار الإسلام وانتشاره، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري. وقوله: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر) رواه أحمد. قال ابن حجر في "فتح الباري" في كلامه على بعض الحكم من الابتلاء: "قال العلماء: ومنها: أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب .. ومنها: أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها".

لقد كانت الفترة المكية بمثابة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل، ومن فوائد ومقاصد دراسة السيرة النبوية استخراج الدروس والعبر من مواقفها وأحداثها لنستفيد منها في واقع حياتنا، ويحصل لنا التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ومن هذه الدروس: أهمية التربية على العقيدة، والصبر على الأذى والثبات على الدين، والتي كانت من أهم سمات التربية النبوية للصحابة في المرحلة المكية..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة