مثل أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين

0 221

أخبر سبحانه قصة أصحاب القرية بقوله: {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين * قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون * وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين * وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون * يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون * وإن كل لما جميع لدينا محضرون} (يس:13-32).

هذا مثل من الأمثال القصصية ضربه سبحانه لعباد الأصنام، يحذرهم فيه من مغبة الكفر والشرك، وينذرهم أن يحل بهم ما حل بكفار أهل هذه القرية، بعد أن أصروا على كفرهم وشركهم بالله سبحانه. ومناسبته لما قبله أن الله تعالى بعد أن عرض في بداية السورة قضية الوحي والرسالة وقضية البعث والحساب في صورة تقريرية، عاد ليعرضهما في صورة قصصية، تلمس القلب بما كان من مواقف التكذيب والإيمان وعواقبهما معروضة كالعيان.

ولم يذكر القرآن شيئا عن هذه القرية، ولا عن أهلها سوى أنهم كانوا أصحاب شرك يعبدون الأصنام، فأرسل الله تعالى إليهم رسولين -كما أرسل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وملئه- فكذبوهما، فعزز الله تعالى برسول ثالث؛ ليؤكد أنه، وأنهما، مرسلون من عند الله تعالى، لا من عند غيره. وتقدم الثلاثة بدعواهم ودعوتهم من جديد، وهنا اعترض عليهم أصحاب القرية بالاعتراضات المكرورة في تاريخ الرسل والرسالات، فكذبوا دعواهم، وردوا دعوتهم بحجج واهية، تدل على سذاجة تصورهم وإدراكهم لحقيقة الرسل؛ كما تدل على جهلهم بحقيقة الرسالة التي أرسلوا إليهم من أجلها. ولما أسقط في أيديهم، لجؤوا إلى التهديد والوعيد، ولم يؤمن منهم إلا رجل واحد، كان يسكن في ناحية القرية، فلما سمع بدعوة هؤلاء المرسلين، استجاب لها بفطرته السليمة، بعد أن رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه. وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان، تحركت هذه الحقيقة في ضميره، فلم يطق عليها سكوتا، {وجاء من أقصى المدينة يسعى}؛ ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم، الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين. ولكن القوم لم يمهلوه حتى قتلوه، فكان جزاؤه الجنة، وكان جزاء قومه أن أهلكوا بالصيحة؛ كما أخبر الله تعالى عنهم في نهاية القصة.

وقد ذكر كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى بن مريم عليه السلام كما نص عليه قتادة وغيره، ولم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غير هذا القول.

وليس في ذلك ما يدل على أن هذه القرية هي أنطاكية، أو يشير إلى أن هؤلاء المرسلين هم رسل المسيح عليه السلام، كما ذكر أكثر المفسرين من السلف؛ لأن قصة هذه القرية وأهلها كانت قبل المسيح عليه السلام، ثم بعد هذا عمرت أنطاكية، وبقي أهلها على شركهم، إلى أن جاءهم من جاءهم من الحواريين، فآمنوا بالمسيح عليه السلام على أيديهم، ودخلوا دينه. وكانت أنطاكية أول المدائن الأربعة الكبار التي آمن أهلها بالمسيح عليه السلام، وكان ذلك بعد رفعه إلى السماء؛ ولكن ظن من ظن من المفسرين أن المرسلين المذكورين في هذه القصة أنهم رسل المسيح، وأنهم من الحواريين.

تبدأ قصة هذا المثل بقول الله عز وجل: {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون}، وهو خطاب من الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، يأمره فيه بأن يضرب لقومه مثلا بأصحاب هذه القرية؛ إذ جاءهم المرسلون، فكذبوهم، فأنزل الله تعالى عليهم عذابه. 

وهنا اعترض أصحاب القرية على الرسل، فأجابوهم بقولهم: {ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون}، أي: ليس لكم علينا مزية موجبة لاختصاصكم بما تدعونه من أنكم مرسلون، وما أنزل الرحمن شيئا من وحي، أو غيره على أحد - كما تدعون- وما أنتم إلا تكذبون في دعواكم هذه. 

ومثل هذا الإنكار والتكذيب هو خطاب المشركين لمن قال: إن الله أرسله، وأنزل عليه الوحي، لا لمن جاء رسولا من عند رسول؛ فقد جعلوا كونهم بشرا مثلهم دليلا على عدم إرسالهم. وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة؛ كما أخبر الله تعالى عنهم، فقال: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا} (التغابن:6)، أي: عجبوا من ذلك، وأنكروه؛ ولهذا قال هؤلاء الكفرة: {ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون}.

فكان جواب المرسلين لهم عن إنكارهم وتكذيبهم أن قالوا: {ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون}. ولما ضاقت الحيل على أصحاب القرية، وعيت بهم العلل، قالوا: {إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم}، أي: تشاءمنا بكم، قالوا ذلك جريا على ديدن الجهلة، حيث يتيمنون بكل ما يوافق شهواتهم، وإن كان مستجلبا لكل شر، ويتشاءمون بما لا يوافقها، وإن كان مستتبعا لكل خير. وهذه حجة العاجز الذي لا يستطيع أن يحتج بشيء، فيلوذ إلى اتهام خصومه بالتطير. ونظير ذلك قوله تعالى عن آل فرعون: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} (الأعراف:131)، وقال تعالى عن قوم صالح: {قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون} (النمل:47).

فأما النموذج الآخر الذي اتبع الذكر، وخشي الرحمن بالغيب، فكان له مسلك آخر، وكانت له استجابة غير هذه الاستجابة، ويتمثل في هذا الرجل الذي أخبر الله عنه، وحكى قصته بقوله تعالى: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون}، إنه رجل جاء من أبعد مواضع مدينته، مسرعا في مشيه؛ لبعد محله ومزيد اهتمامه، حرصا منه على نصح قومه، ونصرة المرسلين، وتعزيز دعوتهم، ملبيا نداء الفطرة. والظاهر أن هذا الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزة من قومه، أو منعة من عشيرته؛ ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه، وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها؛ لينضم إلى موكب المرسلين. وليس مهما بعد ذلك، إن كان هذا الرجل هو حبيب النجار -على ما قيل- أو غيره؛ لأن معرفة ذلك لا يزيد شيئا في دلالة القصة وإيحائها.

وقد بدأ هذا الرجل خطابه لقومه بقوله:{يا قوم اتبعوا المرسلين}، وفي قوله إشارات لطيفة:

أولها: قوله: {يا قوم} ينبئ عن إشفاقه عليهم، وأنه لا يريد بهم إلا خيرا؛ ولهذا أضافهم إلى نفسه، ولم يقل: يا قوم ! وأيضا أراد تأليف قلوبهم، واستمالتها نحو قبول نصيحته.

وثانيها: قوله: {اتبعوا المرسلين} جمع بين إظهار نصحه لقومه، وإظهار إيمانه؛ لأن قوله: {اتبعوا} إظهار للنصح، وقوله: {المرسلين} إظهار لإيمانه.

وثالثها: أنه قدم في قوله السابق إظهار النصح على إظهار الإيمان؛ لأنه كان ساعيا في النصح. وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل. وقوله تعالى في حقه: {رجل يسعى} يدل على كونه مريدا للنصح. ومما ذكر في حكاية هذا الرجل أنه كان يقول، وهو يسعى إلى قومه: اللهم! اهد قومي. ونظير قوله هذا قول مؤمن آل فرعون: {يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد} (غافر:38). وأضاف الرجل المؤمن قائلا: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون}، فاحتج على قومه بما ركبه الله تعالى في فطر الناس وعقولهم من حسن عبادته وحده، وقبح عبادة غيره؛ لأنه الفاطر لهم، ولا إله لهم غيره، ولا رب لهم سواه، وهو وحده المستحق للعبادة. وهذا ما قرره سبحانه في كتابه، ودعا إليه، وأوحى به إلى رسله، فقال جل شأنه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء:25).

فهذه الكلمة هي كلمة الإخلاص لله جل وعلا، وهي البراءة من كل معبود؛ إلا من الخالق الذي فطر الخلق جميعهم؛ كما قال صاحب ياسين هنا: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون}، فأخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه، وهو يريد مناصحتهم تلطفا بهم، ومداراة لهم؛ ولأنه أدخل في إمحاض النصح، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، ونبه العقول بذلك على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب، وأن تركها مستهجن، والإخلال بها قبيح؛ فإن خلق الله تعالى لعباده أصل إنعامه عليهم، ونعمه كلها بعد تابعة لإيجادهم وخلقهم، وقد جبل الله تعالى العقول والفطر على شكر المنعم، ومحبة المحسن. 

ثم أقبل هذا الرجل المؤمن على قومه، مخوفا لهم تخويف الناصح، بأن إلى الله مرجعهم جميعا، فيعاقبهم على شركهم {وإليه ترجعون}. ثم احتج عليهم بما تقر به عقولهم وفطرهم من قبح عبادة غيره، وأنها أقبح شيء في العقل وأنكره، فقال: {أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون}، فبين أن هذه الآلهة التي تعبد من دون الله تعالى باطلة، وأن عبادتها باطلة؛ لأن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته إليه، فإذا أراده الرحمن الذي فطره بضر، لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما ينقذه بها من ذلك الضر، وليس لهذه الآلهة من الجاه والمكانة عند الله تعالى ما يشفع له إليه؛ ليتخلص من ذلك الضر. فبأي وجه من الوجوه تستحق هذه الآلهة الباطلة العبادة؟ فمن يعبد من دون الله آلهة هذا شأنها، يكون في ضلال ظاهر بين، لا يخفي على أحد من ذوي العقول والبصائر، وهذا ما أراده بقوله: {إني إذا لفي ضلال مبين}.

وبعد أن تحدث بلسان الفطرة الصادقة العارفة الواضحة، أعلن قراره بالإيمان في وجه قومه المكذبين المهددين المتوعدين، غير مبال بالعواقب؛ لأن صوت الفطرة في قلبه كان أقوى من كل تهديد، ومن كل تكذيب؛ وذلك قوله: {إني آمنت بربكم فاسمعون}، وفي قوله:{فاسمعون} -كما ذكر الفخر الرازي- فوائد:

أحدها: أنه كلام مترو متفكر، فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين، يتفكر. 

وثانيها: أنه ينبه القوم، ويقول: إني أخبرتكم بما فعلت، حتى لا تقولوا: لم أخفيت عنا أمرك؟ ولو أظهرته، لاتبعناك.

وثالثها: أن يكون المراد: السماع الذي بمعنى القبول. يقول القائل: نصحته، فسمع قولي، أي: قبله.

ويسدل بعد ذلك الستار على الدنيا وما فيها من حطام، وعلى القوم وما هم فيه من كبر وعناد، وما هم عليه من كفر وشرك، ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء، وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة، ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق، ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم، ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين، ونرى هذا الرجل، الذي جهر بكلمة الحق، وقذف بها في وجوه قومه الطغاة، نراه في الجنة ينعم بما ادخر الله له فيها من كرامة، تليق بمقام المؤمنين المخلصين الصابرين، ونسمعه، وهو يتمنى أن يعلم قومه بما غفر له ربه، وجعله من عباده المكرمين؛ وذلك قوله تعالى: {قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}.

أما الكفرة الطغاة فقد كانوا أهون على الله تعالى من أن يهلكهم بأن ينزل عليهم جندا من السماء؛ كالحجارة، والريح، وغير ذلك؛ كما فعل بكفار مكة يوم بدر والخندق. وما كان ليرسل ذلك على الأمم قبلهم، إذا أراد إهلاكهم؛ بل يبعث عليهم عذابا يدمرهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين} وهو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه توعد لقريش أن يصيبهم ما أصاب قوم هذا الرجل من الهلاك؛ إذ هذا هو المروع لهم من هذا المثل. 

والسر في هذا النفي وتأكيده هو أنه تعالى قدر لكل شيء سببا، وأجرى سنته في هلاك من أهلك من الأمم المكذبة على بعض الوجوه دون بعض؛ حيث أهلك بعضهم بالحاصب، وبعضهم بالصيحة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالإغراق، وبعضهم بالمطر؛ كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (العنكبوت:40)، {وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} (الأعراف:84)، {وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين} (الشعراء:173) هذه هي {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} (الأحزاب:62) {فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا} (فاطر:43)

ولم يجعل سبحانه وتعالى إنزال الجند من السماء في إهلاك المكذبين إلا من خصائص محمد صلى الله عليه وسلم في الانتصار له من قومه، خلافا لهؤلاء القوم الذين عاجلهم بالهلاك، إن كانت إلا صيحة واحدة، أخمدت أنفاسهم، وجعلتهم أثرا بعد عين: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} قال المفسرون: أرسل الله تعالى عليهم جبريل عليه السلام، فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة، فإذا هم صرعى بائدون عن آخرهم، لم يبق فيهم روح تتردد في جسد. وفي ذلك إشارة إلى تهوين شأنهم، وتصغير قدرهم، وإيماء إلى تفخيم شأن الرسول.

يسدل الستار على مشهد هؤلاء القوم البائس المهين الذليل. وفي هذه اللحظة الحاسمة التي يختار فيها الإنسان الضلالة على الهداية والباطل على الحق، يصح أن يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}، وهو تذييل من كلام الله تعالى واقع موقع الرثاء للأقوام المكذبين للرسل، شامل لقوم هذا الرجل المقصودين بسوق المثل السابق، واطراد هذا السنن القبيح فيهم. وقوله تعالى: {يا حسرة على العباد} نداء للحسرة عليهم؛ كأنما قيل لها: تعالي يا حسرة! فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل، والمعنى: أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون، ويتلهف على حالهم المتلهفون.

ثم قال عز وجل: {ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}، فبين سبحانه وجه التحسر عليهم، وسبب ندامتهم؛ لأن قوله:{يا حسرة على العباد}، وإن كان قد وقع بعد ذكر أهل القرية، فإنه لما عمم على جميع العباد، حدث إيهام في وجه العموم، فوقع بيانه بأن جميع العباد مساوون لمن ضرب بهم المثل، ومن ضرب لهم في تلك الحالة الممثل بها، ولم تنفعهم المواعظ والنذر البالغة إليهم من الرسول المرسل إلى كل أمة منهم، ومن مشاهدة القرون الذين كذبوا الرسل فهلكوا، فعلم وجه الحسرة عليهم إجمالا من هذه الآية، ثم تفصيلا من قول الله تعالى بعد: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} (يس:31)

هذا هو المثل الذي ضربه الله عز وجل للمشركين الذين واجهوا دعوة الإسلام في بدايتها بالتكذيب، ضربه لهم في قصة أصحاب القرية المكذبين الذين انتهى أمرهم فجأة بصيحة واحدة أخمدت أنفاسهم، وجعلتهم نسيا منسيا. ويبدأ الحديث بعدها بالتعميم في موقف المكذبين بكل ملة ودين، ويعرض صورة البشرية الضالة على مدار القرون، وينادي على العباد نداء الحسرة وهم لا يتعظون بمصارع الهالكين الذين يذهبون أمامهم، ولا يرجعون إلا يوم الدين.

* مادة المقال مستفادة من موقع (إعجاز القرآن والسنة) بتصرف.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة