فوائِد مِنْ سَرِيَّةُ عُيَيْنَة بْن حِصْن

0 61

بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشر بن سفيان العدوي رضي الله عنه إلى بني كعب من خزاعة لأخذ صدقاتهم، وكانوا مع بني تميم على ماء، فأخذ بشر صدقات بني كعب، فقال لهم بنو تميم وقد استكثروا ذلك: لم تعطونهم أموالكم؟ فاجتمعوا وانتهزوا السلاح، ومنعوا بشرا من أخذ الصدقة، فقال لهم بنو كعب: نحن أسلمنا ولا بد في ديننا من دفع الزكاة، فقال بنو تميم: والله لا ندع بعيرا واحدا يخرج، فلما رأى بشر رضي الله عنه ذلك قدم المدينة المنورة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما حدث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم..
في المحرم من السنة التاسعة من الهجرة النبوية: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عيينة بن حصن رضي الله عنه إلى بني تميم، في خمسين فارسا من المسلمين، ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فلما رأوا الجمع ولوا، وأسر عيينة رضي الله عنه منهم الكثير، وجلبهم إلى المدينة المنورة، فأمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فحبسوا في دار رملة بنت الحارث. وقد أشار البخاري في صحيحه إلى هذه السرية ـ كتاب المغازي ـ: "باب: قال ابن إسحاق: غزوة عيينة بن حصن". وقال ابن حجر: "وذكر ابن سعد أن سرية عيينة بن حصن هذه كانت في المحرم سنة تسع من الهجرة، وأنه سبى (أسر ضمن الأسرى) إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا، والله أعلم"..

قدوم وفد بني تميم ونزول صدر سورة الحجرات:
لما رجع عيينة بن حصن رضي الله عنه بمن معه من أسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم وفد من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر أهل السير ـ فيهم عدة من رؤسائهم، منهم: عطارد بن حاجب، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم المنقري، وقيس بن الحارث، والأقرع بن حابس، وعمرو بن الأهتم، والقعقاع بن معبد، وغيرهم، فلما رآهم أسراهم أخذ النساء والأطفال يبكون، وقد أذن بلال رضي الله عنه لصلاة الظهر، والناس ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فاستبطأ وفد بني تميم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاؤوا بابه، وأخذوا ينادونه من وراء الحجرات: أن اخرج إلينا يا محمد! فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، وفيهم نزل قول الله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}(الحجرات:4). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} قال: (فقام رجل (من بني تميم) فقال: يا رسول الله، إن حمدي زين، وذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الله عز وجل) رواه الترمذي وصححه الألباني. قال المباركفوري: "قوله: "فقال يا رسول الله: إن حمدي زين، وإن ذمي شين" مقصود الرجل من هذا القول مدح نفسه وإظهار عظمته، يعني: إن مدحت رجلا فهو محمود ومزين، وإن ذممت رجلا فهو مذموم ومعيب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك الله عز وجل) أي: الذي حمده زين وذمه شين هو الله سبحانه وتعالى". وقال ابن سعد في "الطبقات" وابن القيم في "زاد المعاد": ".. فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى والسبي". السبي: لغة الأسر، وخص بالنساء والأطفال..

أسباب نزول صدر سورة الحجرات:
1 ـ نزلت في بني تميم والأقرع بن حابس:
قال الواحدي في "أسباب النزول": "وقال محمد بن إسحاق وغيره: نزلت في جفاة بني تميم، قدم وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد، فنادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته: أن اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين، وإن ذمنا شين، فآذى ذلك من صياحهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم، فقالوا: إنا جئناك يا محمد نفاخرك، ونزل فيهم: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات}(الحجرات:4)، وكان فيهم الأقرع بن حابس". وقال ابن كثير: "قد ذكر أنها: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}(الحجرات:2)، نزلت في الأقرع بن حابس التميمي، فيما أورده غير واحد، قال الإمام أحمد: ..عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، فقال: يا محمد، يا محمد ـ وفي رواية: يا رسول الله ـ فلم يجبه. فقال: يا رسول الله، إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال: ذاك الله عز وجل".
وقال ابن حجر في "فتح الباري": "وروى الطبري من طريق مجاهد قال: هم أعراب بني تميم، ومن طريق أبي إسحاق عن البراء قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال صلى الله عليه وسلم: ذاك الله تبارك وتعالى"..
2 ـ نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما:
لما أسلم وفد بني تميم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمر عليهم أحدهم، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (أمر عليهم القعقاع بن معبد، وقال عمر بن الخطاب: بل أمر عليهم الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا (تجادلا) حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا}(الحجرات:1)) رواه البخاري.
قال ابن حجر: "وقد استشكل ذلك، قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب، قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة {لا تقدموا}، ولكن لما اتصل بها قوله {لا ترفعوا} تمسك عمر منها بخفض صوته، وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم والذي يختص بهم قوله: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات}(الحجرات:4)". قال ابن حجر في "فتح الباري": "قال عبد الله بن الزبير: فكان عمر رضي الله عنه بعد ذلك إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم حديثا حدثه كأخي السرار (الكلام السر)، لم يسمعه حتى يستفهمه". وفي ذلك دلالة على أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يرفعا صوتهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل على بعضهما البعض في وجود النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الخلاف لأن كلا منهما يرى أن المصلحة في فلان دون فلان، وكلاهما يريد مصلحة شرعية، ولم يكن الخلاف على تجارة أو أموال أو مصالح شخصية..
ثابت بن قيس:
لما نزل قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}(الحجرات:2)، خشي ثابت بن قيس رضي الله عنه على نفسه خوفا شديدا أن يكون هو المعني والمقصود بهذه الآية، لأنه كان جهير الصوت، فاعتزل الناس وجلس في بيته خائفا حزينا. عن أنس رضي الله عنه قال: (جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو! ما شأن ثابت؟ أشتكى؟ قال سعد: إنه لجاري، وما علمت له بشكوى، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بل هو من أهل الجنة) رواه مسلم..
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على أبي بكر وعمر وثابت بن قيس رضي الله عنهم في أحاديث ومواقف كثيرة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أسيد بن حضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح) رواه الترمذي وصححه الألباني..

فائدة:
محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره من أفضل شعب الإيمان، ومن أجل وأعظم أعمال القلوب، ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا أن نحقق محبته اعتقادا، وقولا، وعملا.. ومن صور هذا التوقير وهذه المحبة عدم رفع صوتنا فوق صوته ـ حيا وميتا ـ. قال القاضي أبو بكر بن العربي: "حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرقعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به". وقال ابن عطية في تفسيره لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}(الحجرات:2): "وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم". وقال ابن القيم في "مدارج السالكين": "ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم: أن لا ترفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به؟! أترى ذلك موجبا لقبول الأعمال، ورفع الصوت فوق صوته موجبا لحبوطها؟!". وقال القاضي عياض: "واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره وتعظيمه، لازم كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته، وتعظيم أهل بيته وصحابته"..

السيرة النبوية هي التطبيق العملي لما جاء في القرآن الكريم، وهي كذلك ـ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ـ تعين كل مسلم على فهم القرآن الكريم وتذوق روحه ومقاصده، إذ أن الكثير من الآيات القرآنية إنما تفسرها وتجليها الأحداث التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وحتى تفهم هذه الآيات القرآنية فهما صحيحا لا بد من دراسة السيرة النبوية والتي يتبين من خلالها أسباب نزول الكثير منها، ومما لا ريب فيه أن معرفة أسباب النزول ضروري لمن يتصدى لتفسير القرآن الكريم، لما هو معلوم من الارتباط بين السبب والمسبب، ولذلك قال الواحدي في "أسباب نزول القرآن": "لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها". وقال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب". وقد ألف ابن حجر كتابا خاصا في أسباب النزول سماه: "العجاب في بيان الأسباب"، وذكر فيه أمثلة كثيرة في أسباب نزول كثير من الآيات القرآنية من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما حدث في سرية عيينة بن حصن رضي الله عنه بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد تميم، ونزول قول الله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات}(الحجرات:4)، وما حدث كذلك بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}(الحجرات:2).. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة