لا عَدْوَى ولا طِيَرَة

0 108

العدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، والعدوى اسم من الإعداء، وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، والمنفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية أن العلة تسري بطبعها لا بقدر الله عز وجل. والطيرة هي: التشاؤم ببعض الطير والحيوان، والأسماء والألفاظ، والبقاع والأشخاص.. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لنشر عقيدة التوحيد، وإزالة الشرك والأوهام التي تفسد وتعبث بالعقائد والعقول، ومن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاعتقاد بأن المرض يعدي بنفسه لا بقدر الله عز وجل، ونهى عن التطير والتشاؤم، وحث على التفاؤل والكلمة الطيبة..

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة (تشاؤم)، ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة) رواه البخاري. لما كان الخير والشر كله مقدر من الله عز وجل، نفى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث تأثير العدوى بنفسها، ونفى وجود تأثير للطيرة، وأقر التفاؤل واستحسنه، وذلك لأن التفاؤل حسن ظن بالله تعالى، وحافز للهمم على تحقيق المراد، بعكس التطير والتشاؤم. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين محذورين ومرغوب، فالمحذوران هما العدوى والطيرة، والمرغوب هو الفأل، وهذا من حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته..
قال البيضاوي في "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة": "يريد بالعدوى مجاوزة العلة من المعلول إلى غيره، والمعنى: أن مصاحبة المعلول ومواكلته لا توجب حصول تلك العلة لتخلفها عن ذلك طردا وعكسا. أما الأول: فلأن كثيرا ما يصاحب الرجل من هو مجذوم أو أجرب ولا تتعدى إليه علته، وإليه أشار فيما روى جابر: أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة. وأما الثاني: فلأن أكثر ما يعرض هذه الأمراض إنما تتعرض حيث لا تكون ثم تعدية، وإليه أشار في الحديث الذي بعد هذا بقوله: (فمن أعدى الأول؟)، لكنها قد تكون من الأسباب المقدرة التي تعلقت المشيئة بترتيب تلك العلة عليها بالنسبة إلى بعض الأشخاص بإحداث الله تعالى. فعلى العاقل أن يتحرز عنها ما أمكن تحرزه عن الأطعمة المؤذية، والأشياء المخوفة، وإليه أشار بقوله: (وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)".
وقال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "قوله: (لا عدوى): العدوى هنا مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره. يقال: أعدى فلان فلانا. وذلك على ما يذهب إليه المتطببة (أهل الطب) في علل سبع: الجذام، والجرب، والجدري، والحصبة، والرمد، والأمراض الوبائية. وقد اختلف العلماء في التأويل، فمنهم من يقول: إن المراد منه نفي ذلك وإبطاله على ما يدل عليه ظاهر الحديث، والقرائن المسوقة على العدوى، وهم الأكثرون. ومنهم من يرى أنه لم يرد إبطالها فقد قال صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم كما تفر من الأسد) وقال: (لا يوردن ذو عاهة على مصح). وإنما أراد بذلك نفي ما كان يعتقده أصحاب الطبيعة، فإنهم كانوا يرون أن العلل المعدية مؤثرة لا محالة، فأعلمهم بقوله هذا أن ليس الأمر على ما تتوهمون، بل هو متعلق بالمشيئة إن شاء كان، وإن لم يشأ لم يكن". وقال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "لا يجوز أن يقول قائل: أعداني مرض فلان، ولا يجوز التطير وكل ذلك تخيلات فاسدة".
وقال ابن الجوزي في "كشف المشكل من حديث الصحيحين": "(لا عدوى ولا طيرة) كانت العرب تتوهم الفعل في الأسباب، كما كانت تتوهم نزول المطر بفعل الأنواء، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لا عدوى) وإنما أراد إضافة الأشياء إلى القدر، ولهذا قال في حديث أبي هريرة: (فمن أعدى الأول؟)، ونهى عن الورود إلى بلد فيه الطاعون لئلا يقف الإنسان مع السبب وينسى المسبب".
وفي "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري": "(لا عدوى) ومعناه على أرجح الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن حجر (فتح الباري): أنه لا صحة لما كانت الجاهلية تعتقده من أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله تعالى، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقاد ذلك ليعلموا أن المرض إنما ينتقل من جسم لآخر بإذن الله ومشيئته، فإذا أراد الله المرض للجسم الآخر انتقل إليه من ذلك المريض، وحدثت العدوى، وإلا فلا".
وقال الشيخ ابن عثيمين: "قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) لا نافية للجنس، ونفي الجنس أعم من نفي الواحد والاثنين والثلاثة، لأنه نفي للجنس كله، فنفي الرسول صلى الله عليه وسلم العدوى كلها".
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا طيرة، ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة). قال ابن الأثير: "الطيرة: بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن، هي التشاؤم بالشيء". وقال النووي: "والتطير التشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قول، أو فعل، أو مرئي، وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح (السانح ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك، والبارح ما أتاك من ذلك عن يسارك)، فينفرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به، ومضوا في سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم، وتشاءموا بها، فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم، فنفى الشرع ذلك وأبطله ونهى عنه".
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "الطيرة بأن يكون قد فعل أمرا متوكلا على الله، أو يعزم عليه، فيسمع كلمة مكروهة مثل ما يتم، أو ما يفلح، ونحو ذلك فيتطير، ويترك الأمر فهذا منهي عنه".
وفي معارج القبول للشيخ "حافظ الحكمي": "الطيرة "ترك الإنسان حاجته واعتقاده عدم نجاحها، تشاؤما بسماع بعض الكليمات القبيحة، كيا هالك أو يا ممحوق ونحوها، وكذا التشاؤم ببعض الطيور كالبومة وما شاكلها، إذا صاحت قالوا إنها ناعبة أو مخبرة بشر، وكذا التشاؤم بملاقاة الأعور أو الأعرج".
وقال الخطابي: "الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله تعالى، والطيرة وإنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه". وقال ابن هبيرة: "وأما الفأل فقد فسره أن الكلمة الطيبة يسمعها المسلم فيستدل بها على ما يسره، والمعنى في ذلك أن الشرع نهى عن الطيرة والتشاؤم، واستحب التفاؤل لأن الفأل حسن ظن بالله تعالى، والطيرة سوء ظن به عز وجل"..

فائدة:
ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا توردوا الممرض على المصح) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) رواه البخاري. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه) رواه البخاري.
أزال العلماء هذا التعارض الموجود في ظاهر هذه الأحاديث وجمعوا بينها. قال النووي بعد أن نقل وجوب الجمع بين الأحاديث التي في ظاهرها تعارض: "ثم المختلف قسمان: أحدهما يمكن الجمع بينهما فيتعين ويجب العمل بالحديثين جميعا، ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة تعين المصير إليه، ولا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع، لأن في النسخ إخراج أحد الحديثين عن كونه مما يعمل به.. ومثال الجمع حديث: (لا عدوى) مع حديث (لا يورد ممرض على مصح)، ووجه الجمع أن الأمراض لا تعدى بطبعها، ولكن جعل الله سبحانه وتعالى مخالطتها سببا للإعداء، فنفى في الحديث الأول ما يعتقده الجاهلية من العدوى بطبعها، وأرشد في الثاني إلى مجانبة ما يحصل عنده الضرر عادة بقضاء الله وقدره وفعله". وقال الشيخ الألباني: "واعلم أنه لا تعارض بين الحديث وبين أحاديث العدوى، لأن المقصود منها إثبات العدوى، وأنها تنتقل بإذن الله تعالى من المريض إلى السليم"..
ـ بين النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث مبادئ الحجر الصحي بأوضح بيان، فمنع الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون، ومنع كذلك أهل تلك البلدة من الخروج منها، والطب الوقائي في المنهج النبوي يقوم على الوقاية من الأمراض قبل وقوعها، والعلاج منها بعد وقوعها، أما قبل وقوعها، فيكون بالطهارة والنظافة، والمحافظة على البيئة، والطعام والشراب الصحي.. وأما بعد وقوعها فيكون بالتداوي عامة، والحجر الصحي مع الأمراض المعدية خاصة ـ والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة ـ، وذلك حرصا منه صلوات الله وسلامه عليه، ليس على سلامة صحة المسلم والمجتمع الإسلامي فحسب، ولكن على عموم البشرية كلها، فإن الأمراض المعدية إذا انتشرت في مجتمع فإنها لا تخص أتباع دين دون دين، ولا تختار إنسانا دون إنسان، ولكنها تؤثر على حياة الناس في المجتمعات كلها، والله عز وجل قال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء:107)..

العقيدة الإسلامية الصحيحة تحقق السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، لصحة دلائلها، ولموافقتها القلوب السليمة والفطر القويمة، والعقول الصحيحة، ومن جملة خصائص هذه العقيدة كونها وسطا بين الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط.. ومن مظاهر الوسطية في العقيدة الإسلامية ـ عقيدة أهل السنة ـ: وسطيتها في الجمع بين التوكل على الله وبين الأخذ بالأسباب معا، فأهل السنة يعتقدون أن التوكل الصحيح لا بد فيه من الجمع بين الأمرين: الأخذ بالأسباب، والاعتماد والتوكل على المسبب وهو الله عز وجل. فالتوكل على الله عز وجل والاعتماد عليه من شعب الإيمان، لكنه لا ينافي الأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}(آل عمران:159).. فالاعتماد على الأسباب والاعتقاد فيها قدح في التوحيد، لأنه ليس هناك شيء يستقل بالتأثير بدون مشيئة الله تعالى، وترك الأسباب قدح في التوكل والتشريع، لأن الله تعالى أمرنا وشرع لنا الأخذ بالأسباب. قال ابن تيمية: "قال طائفة من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد.. والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل المأمور به ما يجتمع فيه مقتضي التوحيد والعقل والشرع"..
والمسلم مأمور باتقاء أسباب الشر والبلاء، واجتناب ما جرت العادة بأنه يهلك ويؤذي، مع الاعتقاد واليقين بأن الله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق ولا مقدر غيره سبحانه، وأن الأمراض لا تعدي بطبعها إلا إذا شاء الله عز وجل، مع البعد عن التشاؤم، إذ أنه يوجد علاقة وطيدة بين التشاؤم وكثير من مظاهر الاعتلال النفسي والكسل وضعف الهمة، فالتشاؤم يجعل الإنسان ينتظر حدوث الأسوأ، ويتوقع الشر والفشل، ومن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاعتقاد بأن المرض يعدي بنفسه لا بقدر الله عز وجل، ونهى عن التطير والتشاؤم، وحث على التفاؤل فقال: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة).. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة