- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:مناهج المحدثين
اهتم علماء الحديث بضبط رواية الحديث النبوي، ووضعوا القواعد الضابطة للتحمل والأداء، والكتابة والتحديث، ولما اتسعت رقعة الإسلام، ودخل فيه من غير العرب من يلحن في الحديث، وقد يقع اللحن حتى لمن يتكلم العربية لأسباب منها الأخذ من الكتب دون السماع، وربما لحن لعدم سعة علمه بوجوه العربية ولهجاتها، ولكن حين نتأمل موقف المحدثين من قضية اللحن في الحديث يتأكد لنا كم أنهم حراس أمناء على هذه التركة العظيمة.
أولا: الزجر عن اللحن في الحديث النبوي:
روي عن بعض الصحابة أنهم كانوا ينشؤون أولادهم على تعلم العربية، ويضربونهم على اللحن، ومنهم علي، وابن عمر، وابن عباس، كما ذكره الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
واعتبر بعضهم أن اللحن في الحديث النبوي من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو ينقل عنه ما لم يقله، نقل ذلك القاضي عياض في الإلماع عن أبي داود السنجي قال سمعت الأصمعي يقول: "إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"؛ لأنه لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه".
ويعتبرون اللحن من إساءة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما تركوا الحديث عمن لحن في حديثه؛ زجرا له ولأمثاله حتى يسعى في ضبط روايته وإتقانها، كما قال ابن كثير في الباعث الحثيث: "ومن الناس من إذا سمع الحديث ملحونا عن الشيخ ترك روايته، لأنه إن تبعه في ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن في كلامه، وإن رواه عنه على الصواب، فلم يسمعه منه كذلك".
وربما وصفوا اللحان في الحديث بأوصاف قبيحة تشنيعا لفعله، وتنفيرا من صنيعه، فقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن شعبة قال: " إذا كان المحدث لا يعرف النحو فهو كالحمار يكون على رأسه مخلاة ليس فيها شعير"، وروى أيضا عن حماد بن سلمة أنه قال لإنسان: "إن لحنت في حديثي فقد كذبت علي فإني لا ألحن".
وكانوا يمنعون اللحان من القراءة حتى يتعلم ويتقن الرواية، كما في كتاب رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية لأبي بكر المالكي، قال: عبد الله بن فروخ: دخلنا على سفيان الثوري-أنا وابن غانم والبهلول-فسألناه في السماع، فأجاب إلى ذلك وقال: يقرأ علي أعربكم كلاما فإنه ربما قرأ علي القارئ فيلحن في قراءته فأحرم نومي وطعامي. قال: فقرأ لنا عليه ابن غانم شهورا كثيرة فما رأينا الثوري رد عليه في قراءته شيئا ولا أخذ عليه لحنة واحدة.
ثانيا: موقف المحدثين في التعامل مع اللحن:
اختلفت مواقف المحدثين من الرواية الملحونة، وطريقة التعامل معها، وآراؤهم وإن اختلفت فهي مجتمعة على مقصد التحوط والحفاظ على الرواية من اللحن، أو من التسلط عليها بالرأي، ويمكن إجمال مواقفهم بثلاثة آراء:
الرأي الأول: من كان يرى أنه يرويه على الخطأ كما سمعه، وذهب إلى ذلك من التابعين محمد بن سيرين وأبو معمر عبد الله بن سخبرة، وممن كان يأبى تغيير اللحن نافع مولى بن عمر، وأبو الضحى وغيرهم، ولكن بعض المحدثين اعتبر ذلك غلوا في اتباع اللفظ، وأصله المنع من الرواية بالمعنى.
ومقصود من منع من إصلاح اللحن هو الحفاظ على الرواية مما قد يقع من البعض من تخطئة ما له وجه في العربية، كما قال القاضي عياض في الإلماع: "الذي استمر عليه عمل أكثر الأشياخ نقل الرواية كما وصلت إليهم وسمعوها، ولا يغيرونها من كتبهم.. ، لكن أهل المعرفة منهم ينبهون على خطئها عند السماع والقراءة وفى حواشي الكتب ويقرءون ما في الأصول على ما بلغهم، ومنهم من يجسر على الإصلاح وكان أجرأهم على هذا من المتأخرين القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني الوقشي فإنه لكثرة مطالعته وتفننه كان في الأدب واللغة وأخبار الناس وأسماء الرجال وأنسابهم وثقوب فهمه وحدة ذهنه جسر على الإصلاح كثيرا وربما نبه على وجه الصواب لكنه ربما وهم وغلط في أشياء من ذلك وتحكم فيها بما ظهر له أو بما رآه في حديث آخر وربما كان الذي أصلحه صوابا وربما غلط فيه وأصلح الصواب بالخطأ".
الرأي الثاني: من يرى جواز إصلاح اللحن، ولهم في ذلك طرق مختلفة، كالتضبيب الذي أشار إليه السخاوي في فتح المغيث، وهو أن يضع فوق ما يظنه لحنا رأس الصاد هكذا (صـ)، فإن تأكد له صواب الأصل زاد عليه حرف الحاء لتصبح "صح"، وإلا كتب الصواب في الحاشية، ومنهم من يصوب مطلقا إذا تيقن اللحن، كالوقشي الذي أشار إليه القاضي عياض آنفا، ومنهم من يصوب بإضافة كلمة "يعني".
الرأي الثالث: من يرى إسقاط الرواية الملحونة، فلا تروى باللحن ولا بالصواب، وقد اختار هذا العز الدين بن عبد السلام حكاه عنه ابن دقيق العيد في الاقتراح فقال: "سمعت أبا محمد ابن عبد السلام وكان أحد سلاطين العلماء كان يرى في هذه المسألة ما لم أره لأحد، أن هذا اللفظ المحتمل لا يروى على الصواب ولا على الخطأ، أما على الصواب فإنه لم يسمع من الشيخ كذلك، واما على الخطأ فلأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقله كذلك". ومع ما يمكن أن يوجه به هذا الرأي من الاحتياط للرواية، إلا أن فيه إهدارا كبيرا لروايات صحيحة، فاللحن وإن كان شنيعا من الراوي لكن جمهور المحدثين لم يروا أن ذلك مسوغا لرد الرواية وإسقاطها.
ومقصود الكلام أن المحدثين على اختلاف مواقفهم في التعامل مع اللحن، سواء من يرى إثبات اللحن كما هو والتنبيه عليه، أو من يرى التصويب مطلقا، أو من يرى ترك الرواية التي وقع فيها اللحن، يرومون تمام ضبط الرواية، والحفاظ على الحديث النبوي من اللحن أو مما يتبدى له أنه لحن وله وجه في لهجات العرب وأساليب حديثهم، وهذا يزيد من الثقة بمنهجية المحدثين، ويدعو المخالفين إلى إنصافهم ممن لديهم الموضوعية والعلمية، وإلا فإن جوانب التثبت للرواية عند المحدثين تفوق التصور، وتجعل العاقل يقف إجلالا لما وضعوه من العلوم والموازين الدقيقة في قبول الخبر أو رده.