واللَّهِ ما أدْرِي وأَنَا رَسول الله ما يُفْعَلُ بي ولَا بكُمْ

0 147

ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على البعد التام عن الدخول في الحكم لأحد بالجنة مهما كانت طاعته وعبادته وصلاحه، أو الحكم على أحد بالنار مهما كانت معاصيه وذنوبه وخطاياه، فالإنسان له الظاهر من أخيه، أما السرائر فلا يعلمهما إلا الله سبحانه.. ومن الآفات الخطيرة أن يتوهم الإنسان أنه أصبح وصيا على الناس، فيحكم لهذا بالجنة، ولهذا بالنار، وهذا يتناقض مع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته المشرفة.. ومن المعلوم أن السيرة النبوية بأحداثها ومواقفها وتفاصيلها مدرسة نبوية متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من المواقف التربوية، والفوائد الجليلة، التي تضع للدعاة والمعلمين والمربين منهج التربية وحسن التعامل مع مواقف الحياة ومجرياتها.. ومن هذه المواقف من السيرة النبوية موقفه صلى الله عليه وسلم مع أم العلاء رضي الله عنها حين قالت عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما توفي: (فشهادتي عليك لقد أكرمك الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم لها: (والله ما أدري - وأنا رسول الله - ما يفعل بي ولا بكم).. قال ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه: "توفي بعد شهوده بدرا في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين، وأول من دفن بالبقيع منهم"..

عن أم العلاء رضي الله عنها قالت: (طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى، حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، فاشتكى فمرضناه حتى توفي، ثم جعلناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب (كنية عثمان بن مظعون)، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، قال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك؟! قلت: لا أدري والله، قال: أما هو فقد جاءه اليقين (الموت)، إني لأرجو له الخير من الله، والله ما أدري - وأنا رسول الله - ما يفعل بي ولا بكم. قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي أحدا بعده. قالت: ورأيت لعثمان في النوم (رؤيا في النوم) عينا تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ذلك عمله يجري له) رواه البخاري. وفي رواية قالت: (هنيئا لك الجنة يا أبا السائب).
تحكي أم العلاء رضي الله عنها ـ وهي امرأة من الأنصار ـ وتقول: (طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى) أي: وقع له سهمه في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين بينهم لما دخلوا المدينة عند الهجرة، ولم يكن لهم مساكن. قالت أم العلاء: فسكن عندنا عثمان بن مظعون رضي الله عنه، فاشتكى ومرض، فقمنا بأمره ومراعاته، فمات رضي الله عنه من مرضه هذا، فغسلوه وكفنوه، فدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (رحمة الله عليك يا أبا السائب، فشهادتي لك: أنه قد أكرمك الله)، وفي رواية أحمد قالت: (هنيئا لك الجنة)، فجزمت له في الآخرة بالنعيم والجنة، لما عرفته عنه من العبادة والخير والصلاح وأنه شهد بدرا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك؟!) أي: ومن أين علمت أن الله أكرمه وأدخله الجنة؟ فأجابته: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما عثمان فقد جاءه والله اليقين) وهو الموت، وإني لأرجو له الخير، ثم أقسم صلى الله عليه وسلم بالله قائلا: (والله ما أدري ـ وأنا رسول الله - ما يفعل بي ولا بكم).
قال ابن حجر: "قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني رسول الله، وما أدري ما يفعل بي): إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك موافقة لقوله تعالى في سورة الأحقاف: {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}(الأحقاف:9)، وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}(الفتح:2)، لأن الأحقاف مكية وسورة الفتح مدنية بلا خلاف، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول من يدخل الجنة) وغير ذلك من الأخبار الصريحة في معناه، فيحتمل أن يحمل الإثبات في ذلك على العلم المجمل، والنفي على الإحاطة من حيث التفصيل".
وقال الكرماني في "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري": "فإن قلت: معلوم أنه صلى الله عليه وسلم مغفور له ما تقدم وما تأخر، وله من المقامات المحمودة ما ليس لغيره، قلت: هو نفي للدراية التفصيلية، والمعلوم هو الإجمال". وفي شرح الطيبي على مشكاة المصابيح: "قوله: (لا أدري، وأنا رسول الله) فيه وجوه: أحدها: أن هذا القول منه حين قالت امرأة لعثمان بن مظعون - لما توفي -: هنيئا لك الجنة، زجرا لها على سوء الأدب بالحكم على الغيب، ونظيره قوله لعائشة رضي الله عنها حين سمعها تقول: (طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة: أو غير ذلك يا عائشة!). وثانيها: أن يكون هذا منسوخا بقوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}لفتح:2) كما ذكره ابن عباس في قوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}(الأحقاف:9). وثالثها: أن يكون نفيا للدراية المفصلة دون المجملة. ورابعها: أن يكون مخصوصا بالأمور الدنيوية من غير النظر إلى سبب ورود الحديث.. ولا يجوز حمل هذا الحديث وما ورد في معناه على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مترددا في عاقبة أمره، غير متيقن بماله عند الله من الحسنى، لما ورد عنه من الأحاديث الصحاح التي ينقطع العذر دونها بخلاف ذلك، وأنى يحمل على ذلك؟ وهو المخبر عن الله تعالى أنه يبلغه المقام المحمود، وأنه أكرم الخلائق على الله تعالى، وأنه أول شافع وأول مشفع".
وفي "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة": "قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بي ولا بكم): يريد به نفي علم الغيب عن نفسه، وأنه غير واقف وغير مطلع على المقدر له ولغيره، والمكنون من أمره وأمر غيره، لا أنه متردد في أمره، غير متيقن بنجاته، لما صح من الأحاديث الدالة على خلاف ذلك"..

فائدة:
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يرغب في الشهادة للميت بالخير، وذكر محاسنه، غير أنه لا يجزم له بجنة أو نار، ففي البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير، أدخله الله الجنة، فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة، فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان) رواه البخاري. وحسب المسلم أن يقول لمن يراه على خير وصلاح وتقوى ـ كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ـ: (أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا) رواه البخاري. ومن منهج وعقيدة أهل السنة: عدم الحكم والشهادة لأحد من أهل الإسلام بعينه بجنة ولا نار، إلا ما ورد نص صحيح فيه، لأن دخول أحد الجنة أو النار أمر غيبي، لا يعلمه إلا الله عز وجل، والله سبحانه يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، فمن حكم وشهد لأحد أنه من أهل الجنة أو من أهل النار ـ ممن لم يدل الدليل من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة على ذلك ـ فقد تجرأ وقال على الله عز وجل بلا علم، هذا من حيث التعيين، أما من حيث العموم: فيشهدون ـ أهل السنة ـ على الظالم بالنار دون تنزيله على إنسان معين، ويشهدون للمطيع بالجنة دون تنزيله على إنسان معين، ويرجون للمحسنين لإحسانهم وطاعتهم، ويخافون على المسيئين لذنوبهم وإساءتهم.. قال الشيخ ابن عثيمين: "كل إنسان يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في الجنة فهو في الجنة، وكل إنسان يشهد أنه في النار فهو في النار، وأما من لم يشهد له الرسول فنشهد له بالعموم، نقول: كل مؤمن في الجنة، وكل كافر في النار، ولا نشهد لشخص معين بأنه من أهل النار، أو من أهل الجنة، إلا بما شهد له الله ورسوله"..

السيرة النبوية بأحداثها ومواقفها المختلفة تمثل حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله عز وجل قدوة وأسوة لنا، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(الأحزاب:21). قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله".. وإن المتأمل في حياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليعجب من فقهه في معاملة النفوس، وحكمته في تربيتها وإصلاح أخطائها، وعلاج ما بها من خلل، يظهر ذلك في مواقفه الكثيرة والجديرة بالوقوف معها لتأملها والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية.. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة