الاختلاف في القرآن الكريم (1)

0 272

* مفهوم الاختلاف

كلمة (اختلاف) هي مصدر للفعل (اختلف) وهذا الفعل يدل من الناحية الصرفية على التفاعل والمشاركة، أي: لا يكون إلا بين اثنين فأكثر. جاء في معاجم اللغة: والخلاف: المخالفة...واختلف ضد اتفق، أي: لم يتفق في الرأي، يقال: اختلف بين كذا وكذا. و(الخلفة) بالكسر: الاسم من الاختلاف، أي: خلاف الاتفاق، أو مصدر الاختلاف، أي: التردد، ومنه قوله عز وجل: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} (الفرقان:62). 

و(الاختلاف) في الاصطلاح لا يختلف عن معناه اللغوي، فـ (الاختلاف) و(المخالفة) أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفين، وليس كل مختلفين ضدين. قال المناوي: "الاختلاف: افتعال من الخلاف، وهو تقابل بين رأيين في ما ينبغي انفراد الرأي فيه". 

* الألفاظ ذات الصلة

- التفرق: التفرق خلاف التجمع، تفرق القوم وتفارقوا، والاسم الفرقة. والتفريق: خلاف التجميع، يقال: فرق الشيء تفريقا وتفرقة: بدده، وهو متعد، أما التفرق فلازم. والتفريق أبلغ من الفرق؛ لما فيه من معنى التكثير. و(التفرق) اصطلاحا لا يخرج معناه عن المعنى اللغوي. والصلة بين التفرق والاختلاف؛ أن التفرق هو أشد أنواع الاختلاف، وثمرة من ثماره النكرة؛ لأن من الاختلاف ما لا يصل إلى حد الافتراق، وهو أكثر أنواع الخلاف بين الأمة. 

- المنازعة: لغة مشتقة من الجذر (نزع)، وتأتي بمعنى الجذب؛ يقال: نزع القوس إذا جذبها، ومنه نزع الإنسان إلى أهله، ومنه تنازع القوم: اختصموا، وبينهم نزاعة، أي: خصومة في حق، ومنه قوة العزيمة في الرأي والهمة؛ يقال للرجل الجيد الرأي: إنه لجيد المنزعة. ومنه القلع، يقال: نزعت الشيء من مكانه نزعا: إذ اقتلعته. و(المنازعة) اصطلاحا: المخاصمة والمخالفة القائمة على التنازع والتجاذب لنفي ما عند الآخر، سواء أكان حقا أم باطلا، والموصلة في الغالب إلى الفشل والانتكاس. والصلة بين المنازعة والاختلاف أن الاختلاف لا يحمل معنى المنازعة، فقد يحصل الاختلاف، ولا تحصل المنازعة، أما المنازعة فهي اختلاف مع معادة ومخاصمة.  

- الاجتماع: لغة التئام الشيء، وضم بعضه إلى بعض، وهو خلاف التفريق. واصطلاحا: اجتماع الناس، وعدم تفرقهم، واجتماع القلوب بائتلافها، وعدم تفرقها. والصلة بين الاجتماع والاختلاف، أن الاختلاف السائغ بين المسلمين يمكن أن يحصل معه الاجتماع، ولا يكون سببا في تفرقهم، وأما إذا كان ذلك مؤديا إلى تفرقهم، وتمزق وحدتهم، وعدم اجتماعهم، فإنه بذلك يكون مذموما.

- الاعتصام: العصم لغة: الإمساك، والاعتصام: الاستمساك، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا} (آل عمران:103) أي: تمسكوا بعهد الله. والاعتصام بحبل الله: هو ترك الفرقة، واتباع القرآن. و(الاعتصام) اصطلاحا: لا يختلف عن معناه في اللغة. والصلة بين الاعتصام والاختلاف؛ أن الاعتصام: الاستمساك بالشيء، افتعال منه، والمقصود الاستمساك بحبل الله، وهو بهذا الاعتبار وسيلة للاجتماع، وطريق إليه؛ ولهذا يقال: الاستمساك بحبل الله سبب للاجتماع، وعصمة من الخلاف والتفرق.  

* الاختلاف في الاستعمال القرآني

ورد (الاختلاف) في القرآن الكريم اثنتين وخمسين (52) مرة، والصيغ التي ورد فيها هي: الفعل الماضي (19) مرة، المضارع (16) مرة، المصدر (7) مرات، اسم الفاعل (10) مرات. وجاء (الاختلاف) في القرآن بمعناه في اللغة، وهو: ضد الاتفاق، وهو أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الأول في فعله أو حاله. 

* الاختلاف سنة الله تعالى في الخلق

إن الاختلاف سنة إلهية بين جميع المخلوقات! وليس بين البشر وحدهم، قال عز وجل: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها} (الأنعام:141). وعن الاختلاف العلمي والفكري يقول جل شأنه: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (هود:118-119). وقال عز من قائل: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (الروم:22) ولا شك، أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلك، فيه الدلالة القاطعة على أن الله جل وعلا واحد، لا شبيه له ولا نظير ولا شريك، وأنه المعبود وحده. وفيه الدلالة القاطعة على أن كل تأثير فهو بقدرة الفاعل وإرادة المختار، وأن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا، كما أوضح ذلك تعالى في قوله: {وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} (الرعد:4) فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة؛ لأن قطعها متجاورة، والماء الذي تسقى به ماء واحد، والثمار تخرج متفاضلة، مختلفة في الألوان والأشكال والطعوم، والمقادير والمنافع. فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار، يفعل ما يشاء كيف يشاء، سبحانه جل وعلا عن الشركاء والأنداد.

وحكمة أخرى لهذا الاختلاف في الخلق، أشار لها أثر لأبي بن كعب رضي الله عنه عند قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} (الأعراف:172) قال: (...ورفع عليهم آدم ينظر إليهم، فرأى الغني والفقير، وحسن الصورة، ودون ذلك، فقال: رب لولا سويت بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أشكر) قال محققو المسند: أثر ضعيف، وحسنه الألباني. فالغني يرى الفقير، فيشكر الله الذي أغناه، والصحيح يرى المريض، فيشكر الله الذي عافاه، والمهتدي يرى الضال، فيشكر الله الذي هداه. 

* أنواع الاختلاف

قضت مشيئة الله تعالى خلق الناس بعقول ومدارك متباينة الى جانب اختلاف الألسنة والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام، وتختلف باختلاف قائليها. وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله تعالى، فإن اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك المدارك والعقول آية من آيات الله تعالى كذلك، ودليل من أدلة قدرته البالغة، وإن إعمار الكون وازدهار الوجود، وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، وكل ميسر لما خلق له. بيد أن هذا الاختلاف ليس على درجة واحدة، بل منه المحمود، ومنه المذموم، بيان ذلك آتيا:

- الاختلاف المحمود: قال عز وجل: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} (البقرة:253) فالاختلاف في هذه الآية لا نستطيع أن نقول: إنه شر كله، أو مذموم بإطلاق! بل من خالف الكفار في كفرهم وضلالهم، فآمن بالله تعالى، وصدق رسله، واستسلم لشريعته، فخلافه هذا ممدوح محمود محبوب لله تعالى، ومن خالف المؤمنين في إيمانهم بربهم، وتصديقهم برسله، واستسلامهم لشريعته، فخلافه هذا شر عليه في الدنيا ووبال عليه في الآخرة.

قال سبحانه: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} (البقرة:213) ولذا، لما سئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: (كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) رواه مسلم. 

وفي هذا السياق يقول ابن القيم: "فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان، ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدي لما اختلف فيه من الحق. فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلا، وأقومهم قيلا، وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمة وهدى، يقر بعضهم بعضا عليه، ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناظر، الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم بالتناظر والتشاور وإعمالهم الرأي وإجالتهم الفكر في الأسباب الموصلة إلى درك الصواب". 

- الاختلاف المذموم: وهو أن يكون المختلفون كلهم مذمومين، وهم الذين اختلفوا بالتأويل، وهم الذين نهانا الله سبحانه عن التشبه بهم في قوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} (آل عمران:105) وهم الذين تسود وجوههم يوم القيامة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} (البقرة:176) فجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد. وهذا النوع هو الذي وصف الله أهله بالبغي، وهو الذي يوجب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البين، ويوقع التحزب والتباين. وفي هذا المعنى يقول سبحانه: {ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم:32) ويقول أيضا: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} (البقرة:19) ويقول عز من قائل: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} (البينة:4) قال الشافعي: "فإنما رأيت الله ذم الاختلاف في الموضع الذي أقام عليهم الحجة، ولم يأذن لهم فيه".

ومن صور الخلاف المذموم في القرآن الكريم: مخالفة المسلمين في أصل إيمانهم وعقيدتهم في الله تعالى وأنبيائه ورسله وشرائعه، ونحو ذلك، فمن فعل ذلك فهو داخل في هذا الاختلاف المذموم، قال تعالى: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (الشورى:13) أي: لا تختلفوا في التوحيد، والإيمان بالله، وطاعة رسله، وقبول شرائعه، فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع، وتوافقت فيها الأديان، فلا ينبغي الخلاف في مثلها. قال الآمدي: "يجب حمل ما ورد من ذم الاختلاف والنهي عنه على الاختلاف في التوحيد والإيمان بالله ورسوله، والقيام بنصرته، وفي ما المطلوب فيه القطع دون الظن".

وقال عز شأنه: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} (آل عمران:103) قال الجصاص: "{فألف بين قلوبكم} يعني: بالإسلام، وفي ذلك دليل على أن التفرق المذموم المنهي عنه في الآية هو في أصول الدين والإسلام لا في فروعه". ومما يلتحق بالصورة السابقة للخلاف المذموم: خلاف الخوارج والرافضة والمعتزلة والقرآنيين وغيرهم من أهل البدع لأهل السنة والجماعة، مما يصل بعض صوره إلى الكفر. والمخالفون فيه خالفوا جمهور المسلمين في أصول المسائل، التي يقوم عليها المعتقد والأحكام، فأصولهم فاسدة، ومن ذلك: تقديم العقل على النقل، أو القول بعصمة الأولياء أو أئمة أهل البت، أو ترك الاحتجاج بالسنة. وهذا النوع هو الذي يؤدي إلى فرقة الأمة وتشرذمها، وجاءت النصوص القرآنية والنبوية في التحذير منه؛ من ذلك: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} (هود:118-119) قال ابن عاشور: "{إلا من رحم ربك} أي: فعصمهم من الاختلاف. وفهم من هذا، أن الاختلاف المذموم المحذر منه هو الاختلاف في أصول الدين، الذي يترتب عليه اعتبار المخالف خارجا عن الدين، وإن كان يزعم أنه من متبعيه، فإذا طرأ هذا الاختلاف، وجب على الأمة قصمه، وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكل وسيلة من وسائل الحق والعدل، بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة، فإن لم ينجع ذلك فبالقتال، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في قتال العرب، الذين جحدوا وجوب الزكاة، وكما فعل علي كرم الله وجهه في قتال الحرورية الذين كفروا المسلمين. وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف".  

* أسباب الاختلاف

المقصود بـ (الاختلاف) الذي يتجه الحديث عن أسبابه في القرآن الكريم، هو (اختلاف) الأفكار والعقائد ونحوهما، لا اختلاف الألسن والألوان ونحوهما، ومن أعظم أسباب هذا الاختلاف ما يأتي:

أولا: فساد النية: ويندرج تحتها أمور، منها: 

- البغي: أخبر سبحانه عن بني إسرائيل بقوله: {وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} (الجاثية:17) قال الزجاج: "أي: للبغي، لم يختلفوا؛ لأنهم رأوا البصيرة والبرهان". وقال عز من قائل: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب * وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} (الشورى:13-14) فالله تعالى لما بين أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه، كان لقائل أن يقول: فلماذا نجدهم متفرقين؟ فأجاب الله تعالى عنهم بقوله: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب، ودعا الناس إليه، وقبح ما سواه؛ طلبا للذكر والرياسة، فصار ذلك سببا لوقوع الاختلاف.

- الحسد: الحسد نوعان: محمود ومذموم؛ فالمحمود تمني مثل ما تراه لغيرك، وهذا يسمى الغبطة، والمذموم أن تتمنى زواله عنه، وانتقاله إليك وهو الحسد بالحقيقة. وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها) متفق عليه. وقال جل وعلا: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} (البقرة:109) أي: حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كرمه الله بالرسالة دونهم! ثم حسدوا العرب الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم دونهم! وهكذا استولى عليهم الحسد حتى دعاهم إلى مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما يدعو إليه، ومخالفة سبيل المؤمنين، الذين آمنوا بنبوته! حتى قال سبحانه لهؤلاء المكذبين من أهل الكتاب: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق} (البقرة:137).

وكما حمل الحسد هؤلاء المكذبين من أهل الكتاب، حتى خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ فقد حمل الحسد كذلك مشركي العرب، حتى قالوا عن من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من فقراء المسلمين: {أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} (الأنعام:53) والحسد يكون أعظم ما يكون -كما ذكر ابن عاشور- إذا كان الحاسد يرى نفسه أولى بالنعمة المحسود عليها، فكان ذلك الداعي فتنة عظيمة في نفوس المشركين؛ إذ جمعت كبرا وعجبا وغرورا بما ليس فيهم إلى احتقار للأفاضل وحسد لهم، وظلم لأصحاب الحق، وإذ حالت بينهم وبين الإيمان والانتفاع بالقرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الرازي: "واعلم أن الحسد ربما أفضى إلى التنازع والتقاتل" كما يظهر ذلك جليا في قصة ابني آدم {إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين} (المائدة:27-30). وفي قصة يوسف عليه السلام مع إخوته، حين قالوا بعد ما حسدوه: {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم} (يوسف:9). 

- اتباع الهوى: قال سبحانه عن بني إسرائيل: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} (البقرة:87) فجعلوا أهواءهم هي الفيصل والحكم، وخالفوا بها أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وإنما كانوا كذلك -كما قال الرازي- لإرادتهم الرفعة في الدنيا، وطلبهم لذاتها والترؤس على عامتهم، وأخذ أموالهم بغير حق، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك، فيكذبونهم لأجل ذلك، ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين، ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم. وقال سبحانه: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (القصص:50). 

ثانيا: ترك الوحي: قال جل وعلا في حق النصارى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} (المائدة:14) قال الحسن البصري: "فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله تعالى، أخذنا ميثاقهم في التوحيد والنبوة، {فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} (المائدة:14) بالأهواء المختلفة، والجدال في الدين، قال مجاهد وقتادة: يعني بين اليهود والنصارى، وقال الربيع: هم النصارى وحدهم صاروا فرقا منهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية، وكل فرقة تكفر الأخرى".

فإن قيل: كيف أغريت بينهم العداوة، وهم لم يزالوا إلبا على المسلمين؟ أجاب ابن عاشور عن هذا، فقال: "إن العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فرقا، وذلك الانقسام يجر إليهم العداوة وخذل بعضهم بعضا. ثم إن دولهم كانت منقسمة ومتحاربة، ولم تزل كذلك، وإنما تألبوا في الحروب الصليبية على المسلمين، ثم لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن، وكان اختلافهم لطفا بالمسلمين في مختلف عصور التاريخ الإسلامي، على أن اتفاقهم على أمة أخرى لا ينافي تمكن العداوة في ما بينهم، وكفى بذلك عقابا لهم على نسيانهم ما ذكروا به" وقد قال سبحانه: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} (الحشر:14). وغير خاف أن في قوله سبحانه: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} تحذيرا لهذه الأمة من سلوك مسلك أهل الكتاب في نسيان دين الله تعالى.

ثالثا: اختلاف الأفهام: لا عجب أن تختلف أفهام الناس وتتفاوت مداركهم، يشير لهذا قول الباري سبحانه: {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} (الأنبياء:78-79) فمعنى قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} كما قال ابن عاشور: "أنه ألهمه وجها آخر في القضاء، هو أرجح؛ لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق؛ وذلك أنه أرفق بهما، فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان، فيصار إلى الترجيح، والمرجحات لا تنحصر، وقد لا تبدو للمجتهد، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به، وليتعزى على من فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان". 

وغير بعيد أن يضرب هذا النموذج في قصة داود وابنه سليمان عليهما السلام مثالا على اختلاف الأفهام المحمودة؛ حيث إنه لم يحصل جراء اختلاف فهمهما شر بينهما، أو نزاع. قال ابن القيم: "ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه؛ لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحدا، والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة، لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافا لا يضر".

* مادة المقال مستفادة من موقع (موسوعة التفسير الموضوعي).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة