- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:القرآن الكريم
* آثار الاختلاف
لا شك أن لـ (الاختلاف) آثارا تنجم عنه، لكن وصف تلك الآثار يرجع إلى وصف ذلك الاختلاف؛ فإن اختلافا محمودا، كانت آثاره كذلك، وإن كان اختلافا مذموما، كانت آثاره كذلك. والذي يعنينا في هذا السياق هو تسليط الضوء على آثار الاختلاف التي ذكرها القرآن الكريم. فمن الآثار التي ذكرها القرآن للاختلاف الآتي:
أولا: الفشل وذهاب الريح: قال سبحانه: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} (الأنفال:46) وماذا بعد الفشل وذهاب القوة والوحدة إلا تسلط الأعداء على المسلمين، وإذاقتهم سوء العذاب، قال قتادة: "لا تختلفوا، فتجبنوا، ويذهب نصركم". وقال ابن تيمية: "وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها"، وقال أيضا: "وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها؛ وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
ثانيا: الشقاق: قال عز وجل: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} (البقرة:176) أي: وإن الذين اختلفوا في الكتاب، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه، والذين حرفوه وصرفوه على أهوائهم ومراداتهم، {لفي شقاق} أي: محادة، {بعيد} عن الحق؛ لأنهم قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للاتفاق وعدم التناقض، فمرج أمرهم، وكثر شقاقهم، وترتب على ذلك افتراقهم، بخلاف أهل الكتاب الذين آمنوا به، وحكموه في كل شيء، فإنهم اتفقوا وارتفقوا بالمحبة والاجتماع عليه.
ثالثا: إلغاء كل ما لدى الخصم من حق: قال تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} (البقرة:113) قال ابن عطية: "وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها، لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى وتقرير التوراة، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى وصحة نبوته، وكلاهما تضمن صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فعنفهم الله تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلاف ما قالوا". وفي قوله تعالى: {وهم يتلون الكتاب} تنبيه للأمة على ملازمة القرآن، والوقوف عند حدوده. أما قوله تعالى: {كذلك قال الذين لا يعلمون} فإنه يقتضي أن من تقدم ذكره يجب أن يكون عالما، لكي يصح هذا الفرق، فبين تعالى أنهم مع المعرفة والتلاوة إذا كانوا يختلفون هذا الاختلاف، فكيف حال من لا يعلم؟!
رابعا: التفرق والتحزب: قال تعالى: {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم:32) {فرقوا دينهم} جعلوه أديانا مختلفة؛ لاختلاف أهوائهم، وتركوا دين الإسلام {وكانوا شيعا} فرقا كل واحدة تشابع إمامها الذي أضلها {كل حزب} منهم {بما لديهم فرحون} فرح بمذهبه مسرور، يحسب باطله حقا.
خامسا: العذاب العظيم في الآخرة: قال عز وجل: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} (آل عمران:105-106) أي: يا معشر الذين آمنوا! لا تكونوا كالذين تفرقوا من أهل الكتاب، واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه، من بعد ما جاءهم من حجج الله، في ما اختلفوا فيه، وعلموا الحق فيه، فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمر الله، ونقضوا عهده وميثاقه جراءة على الله، ولهؤلاء الذين تفرقوا، واختلفوا من أهل الكتاب من بعد ما جاءتهم حجج الله سبحانه عذاب من عند الله عظيم، فلا تتفرقوا، يا معشر المؤمنين! في دينكم تفرق هؤلاء في دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم.
* وسائل رفع الاختلاف
الاختلاف الذي حذرنا الله سبحانه منه في كتابه الكريم هو شر كله، وكما أنه سبحانه قد نهانا عنه، وحذرنا منه، فقد أرشدنا -في الوقت نفسه- وهدانا إلى سبل اجتنابه، والوقاية منه، قال ابن تيمية: "من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين؛ فإن الله تعالى يقول: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} (الأنفال:1) ويقول: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (آل عمران:103) ويقول: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} (آل عمران:105) وأمثال ذلك من النصوص، التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف. فإذا وقع الاختلاف، فقد هدانا سبحانه إلى أمور نرفع بها عنا الاختلاف والنزاع فيها، من ذلك:
أولا: الاعتصام بحبل الله جميعا: قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الأصل العظيم -وهو الاعتصام بحبل الله جميعا، وأن لا يتفرق- هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه. ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة".
وعندما يتأمل المسلم هذه الآية العظيمة، يجد فيها مؤكدات كثيرة لوجوب الاعتصام بحبل الله؛ فقوله سبحانه: {واعتصموا} واو الجماعة تعم كل المؤمنين، الذين ناداهم الله في الآية السابقة للآية التي معنا، وهي قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران:102) والمأمور به {بحبل الله} لا شيء سواه، وسواء كان حبل الله هو القرآن أو الرسول أو الدين، فيبقى مفهومه أن نترك أهواءنا وأطماعنا ومصالحنا الشخصية التي هي غير معصومة لما هو معصوم، الذي هو القرآن أو الرسول أو الدين، أو كل هذه الأمور، وفي الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (إن الصراط محتضر، تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله! هلم هذا الطريق! ليصدوا عن سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله، فإن حبل الله هو كتاب الله). ثم قال سبحانه: {جميعا} مع أنه فهم معنى العموم من ضمير الجماعة في قوله: {واعتصموا} لكنه التوكيد والتأكيد على هذا الأمر العظيم. وقوله: {ولا تفرقوا} أيضا قد فهم هذا المعنى من قوله تعالى: {واعتصموا} لكنه كذلك مزيد من التوكيد والتأكيد والاهتمام بهذا الأمر الجليل.
ومن الآيات ذات الصلة بهذا الأمر قوله عز من قائل: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (النحل:64) وقوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} (الشورى:10) وقوله سبحانه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (النساء:59) ونحوها من الآيات التي تبين أن الله سبحانه أنزل كتابه وأرسل رسوله ليرجع الناس إليهما، ويعتصموا بهما من الفرقة والاختلاف والتنازع.
ثانيا: الإصلاح: قال جل وعلا: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} (النساء:114) و(المعروف) هو كل ما أمر الله به، أو ندب إليه من أعمال البر والخير، {أو إصلاح بين الناس} وهو الإصلاح بين المتباينين، أو المختصمين، بما أباح الله الإصلاح بينهما، يتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة، على ما أذن الله وأمر به. ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك فقال: {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} ولا حد لمبلغ ما سمى الله {عظيما} يعلمه سواه.
ولعظيم أمر الإصلاح بين الناس، أحل الشارع الحكيم الكذب من أجل ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا، أو يقول خيرا) متفق عليه، قال الأصمعي: نميت الحديث -مخففا- أي بلغته على وجه الإصلاح والخير، ونميته تنمية، أي: بلغته على وجه النميمة والإفساد.
ثالثا: الجدال بالتي هي أحسن: وهو -كما عرفه الجرجاني- دفع المرء خصمه عن إفساد قوله: بحجة، أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه، وهو الخصومة في الحقيقة. قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (العنكبوت:46) وليس الجدال خاص بأهل الكتاب، بل هو عام للكفار والمؤمنين؛ بهدف إحقاق الحق، وإبطال الباطل. وعن جدال المؤمنين يقول الباري سبحانه: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} (المجادلة:1) بل ذكر سبحانه عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا: {يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} (هود:32) قال الشوكاني: "الجدال لاستيضاح الحق، ورفع اللبس، والبحث عن الراجح والمرجوح، وعن المحكم والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردهم بالجدال إلى المحكم، هو من أعظم ما يتقرب به المتقربون، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب، فقال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران:187). أما الجدال المنهي عنه فهو الجدال بالباطل، والقصد إلى دحض الحق، كما في قوله عز وجل: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق} (غافر:5).
رابعا: المباهلة: هي الملاعنة، وهو أن يجتمع القوم -إذا اختلفوا في شيء- فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. قال سبحانه: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين} (آل عمران:61). والمباهلة وسيلة من وسائل رفع الاختلاف بين المختلفين التي ذكرها القرآن الكريم؛ ليتضح للناس المحق من المبطل. قال ابن كثير: "وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم، أو من المسلمين على وجه المباهلة...ونظير هذه الآية قوله تعالى: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (الجمعة:6-8) فهم -عليهم لعائن الله تعالى- لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، قالوا: {لن يدخل الجنة إلا من كانوا يهودا أو نصارى}، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، لما نكلوا عن ذلك، علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه، لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا، علم كذبهم. وهذا كما دعا رسول الله وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين} (آل عمران:61) فلما رأوا ذلك، قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم.
وهذه المباهلة ليست خاصة مع الكفار والمشركين، بل قد يتباهل المسلمون في بعض المسائل، كما دعا ابن عباس رضي الله عنهما إلى مباهلته في بعض مسائل الفرائض وغيرها.
خامسا: مقاتلة البغاة: من وسائل رفع النزاع والاختلاف أيضا التي ذكرها القرآن الكريم مقاتلة الطائفة الباغية التي تخالف المسلمين، فتبغي عليهم بالقتال، قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9-10) وقد ذكرت هذه الآية وسيلتين من وسائل رفع الخلاف: الإصلاح: {فأصلحوا بينهما} ثم المقاتلة: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} فهو قتال له سببه، وله غايته المحددة المعروفة. قال الرازي: "قوله تعالى: {وإن} إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين، فإن قيل: فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم؟ فالجواب أن قوله تعالى: {وإن} إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادرا، غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي".
وروى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله سبحانه: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} (الحجرات:9) قال: إن الله سبحانه أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا، حكم فيهم بكتاب الله، حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجيب، فهو باغ، فحق على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويقروا بحكم الله. قال الرازي: "فالواجب على الأمير دفعهم، وإن كان هو الأمير، فالواجب على المسلمين منعه بالنصيحة فما فوقها، وشرطه أن لا يثير فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين، أو أشد منهما".
تلكم هي الوسائل -أو غالبها- التي هدانا القرآن الكريم لرفع الخلاف والنزاع الذي يقع بيننا -نحن المسلمين- وبين الكفار، أو بين المسلمين بعضهم البعض. فطوبى لمن جعل القرآن نبراسه وهاديه في السلم والحرب، والصلح والخلاف، والرضا والغضب...إذن لقد أنجح في الدنيا، وأفلح في الآخرة.
* مادة المقال مستفادة من موقع (موسوعة التفسير الموضوعي).