ثبات المؤمن في قبْرِه بالتوحيد

0 0

شهادة وكلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" أصل الدين وأساسه، وعنوان النجاة، وبرهان الفلاح، والتي ما خلق الجن والإنس إلا للقيام بها حق القيام.. قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات:56). قال ابن كثير: "أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم"، وقال القرطبي: "والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون".. وهذا التوحيد لا يكون إلا بنفي وإثبات، وهما ركنا كلمة وشهادة التوحيد "لا إله إلا الله"، لا إله (نفي)، وإلا الله (إثبات) أي: لا إله معبود بحق إلا الله.. ومعناها اصطلاحا وشرعا: إفراد الله عز وجل بما يختص به من الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.. قال ابن القيم: "اسم الله دال على كونه مألوها معبودا، تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، وفزعا إليه في الحوائج والنوائب". وقد قال الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}(الأنبياء:25 ). قال الطبري: "وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم إلا نوحي إليه أنه لا معبود في السماوات والأرض، تصلح العبادة له سواي فاعبدون يقول: فأخلصوا لي العبادة، وأفردوا لي الألوهية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل". وقال السيوطي عند تفسير آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو}(البقرة:255) "أي: لا معبود بحق في الوجود إلا هو". وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى..) رواه البخاري..

وفضل شهادة التوحيد "لا إله إلا الله" عند الله عز وجل عظيم، فقد جعلها الله تعالى باب الدخول في الإسلام، وسبب النجاة من النار، ومغفرة الذنوب، ودخول الجنة، ومن الأسباب التي يثبت الله عز وجل بها المؤمن في قبره عند السؤال.. عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم إذا سئل في القبر، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}(إبراهيم:27)) رواه البخاري.
قال السمعاني: "قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} القول الثابت: كلمة التوحيد، وهي لا إله إلا الله، وقال: يثبت الله، لأنه هو المثبت للإيمان في قلوب المؤمنين. وقوله: {في الحياة الدنيا} يعني: قبل الموت. وقوله: {وفي الآخرة} أي: في القبر، وعليه أكثر أهل التفسير، وقد ثبت ذلك عن النبي برواية البراء بن عازب، وهو قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجماعة من الصحابة. واعلم أن سؤال القبر ثابت في السنة، والإيمان به واجب، وقد وردت فيه الأخبار الكثيرة.. وقوله: {ويضل الله الظالمين} معناه: أنه لا يهدي المشركين إلى هذا الجواب، ولا يلقنهم إياه. وقوله: {ويفعل الله ما يشاء} من التوفيق والخذلان، والتثبيت وترك التثبيت". وقال السعدي: "يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين، أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها. وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين، للجواب الصحيح، إذا قيل للميت (من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟) هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن: (الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي). ويضل الله الظالمين عن الصواب في الدنيا والآخرة، وما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم، وفي هذه الآية دلالة على فتنة القبر، وعذابه ونعيمه، كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة وصفتها، ونعيم القبر وعذابه". وقال البغوي: قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} كلمة التوحيد وهي قول لا إله إلا الله في الحياة الدنيا، يعني قبل الموت، وفي الآخرة، يعني في القبر هذا قول أكثر المفسرين وقيل: في الحياة الدنيا عند السؤال في القبر، وفي الآخرة عند البعث. والأول أصح"..
وقال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم إذا سئل) المسؤول عنه محذوف أي عن ربه، وعن نبيه، ودينه، و(الفاء) في (فذلك قوله: {يثبت الله}) سببية، ولفظة (ذلك) إشارة إلى سرعة الجواب التي يعطيها، يعني: إذا سئل لم يتلعثم، ولم يتحير كالكافر، بل يجيب بديها بالشهادتين، وذلك دليل على ثباته عليه، واستقراره على كلمة التوحيد في الدنيا، ورسوخها في قلبه، ولذلك أتى بلفظ الشهادة، لأنها لا تصدر إلا عن صميم القلب، ومطابقة الظاهر بالباطن.. وعن ابن عباس: "هي شهادة أن لا إله إلا الله"، وثبوتها تمكنها في القلب واعتقاد حقيقتها، واطمئنان القلب بها. وتثبيتهم في الدنيا: إنهم إذا فتنوا لم يزالوا عنها - وإن ألقوا في النار - ولم يرتابوا بالشبهات، وتثبيتهم في الآخرة: إنهم إذا سئلوا في القبر لم يتوقفوا في الجواب..".
وفي "المفاتيح في شرح المصابيح ": "قوله: (المسلم إذا سئل في القبر) إلى آخره. اعلم أن الميت إذا وضع في القبر تنفخ فيه الروح، ويقعد حيا كما كان في الدنيا قاعدا، وأتاه ملكان من عند الله تعالى، فيسألانه عن ربه وعن نبيه وعن دينه، فإن كان مسلما أزال الله تعالى الخوف عنه، وأثبت لسانه في جوابهما، فيجيبهما عما يسألانه، وأما الكافر فغلب عليه الخوف، ولا يقدر على جوابهما فيكون معذبا في القبر. قوله: {يثبت الله} أي: يجري الله تعالى لسان المسلمين {بالقول الثابت}: وهو كلمة الشهادة، ويديمهم على الحق ما داموا في الدنيا. قوله: {وفي الآخرة} يعني: في القبر أيضا يجري لسانهم بكلمة الشهادة ليجيبوا الملكين، وليس المراد من (الآخرة) ها هنا: يوم القيامة، لأن قول كلمة الشهادة لا ينفع يوم القيامة، بل المراد منه: القبر".

فائدة:
1 ـ من أقوال علماء وأهل السنة في فتنة القبر: قال أبو حنيفة: (سؤال منكر ونكير حق، لورود الأحاديث". وقال الشافعي: "إن عذاب القبر حق، ومساءلة أهل القبور حق، والبعث والحساب والجنة والنار وغير ذلك مما جاءت به السنن وظهرت على ألسنة العلماء وأتباعهم من بلاد المسلمين حق". وقال أحمد بن حنبل: "الإيمان بعذاب القبر وأن هذه الأمة تفتن في قبورها، وتسأل عن الإيمان والإسلام، ومن ربه؟ ومن نبيه؟ ويأتيه منكر ونكير كيف شاء الله، وكيف أراد، والإيمان به، والتصديق به". وقال حرب بن إسماعيل الكرماني في "إجماع السلف في الاعتقاد": "ومنكر ونكير حق، وهما فتانا القبور. نسأل الله الثبات". وقال ابن عبد البر في "الاستذكار": "أهل السنة والجماعة مصدقون بفتنة القبر وعذاب القبر، لتوافر الأخبار بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم". وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الجنة والنار، والبعث والحساب، وفتنة القبر، والحوض، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، فإن هذه الأصول كلها متفق عليها بين أهل السنة والجماعة". وقال أيضا: "أما الفتنة في القبور فهي الامتحان والاختبار للميت حين يسأله الملكان فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم "محمد"؟ {فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}... وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم..". وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح الواسطية": "قوله ـ يعني ابن تيمية ـ "فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه": الفتنة هنا الاختبار، والمراد بفتنة القبر: سؤال الميت إذا دفن: عن ربه ودينه ونبيه. والضمير في "يؤمنون": يعود على أهل السنة، أي: أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بفتنة القبر، وذلك لدلالة الكتاب والسنة عليها. أما الكتاب، ففي قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}(إبراهيم:27)، فإن هذا في فتنة القبر، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم.. وأما السنة، فقد تضافرت بأن الإنسان يفتن في قبره.. وما أعظمها من فتنة! لأن الإنسان يتلقى فيها السؤال الذي لا يمكن الجواب عليه إلا على أساس متين من العقيدة والعمل الصالح".
2 ـ الأحاديث التي فيها شهادة أن لا إله إلا الله دون النص على شهادة أن محمدا رسول الله، يدخل فيها ضمنا شهادة أن محمدا رسول الله وجميع أركان الإيمان وإن لم تذكر في هذه الأحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه مسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا) رواه أحمد.. فلا يدخل الإنسان في الإسلام إلا بهاتين الشهادتين معا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله"، فهما متلازمتان، فشهادة "لا إله إلا الله" أي: لا معبود بحق إلا الله، وشهادة "أن محمدا رسول الله" أي: التصديق الجازم من صميم القلب الموافق لقول اللسان بأن محمدا عبده ورسوله إلى الخلق كافة، ومعنى كلمة "أشهد" في الشهادتين: يدور حول العلم والاعتقاد، ولها مراتب بعد ذلك، ذكرها ابن القيم في "مدارج السالكين" فقال: "فأول مراتبها: علم، ومعرفة، واعتقاد لصحة المشهود به، وثبوته، وثانيها: تكلمه بذلك، ونطقه به، وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم به مع نفسه ويذكرها، وينطق بها أو يكتبها. وثالثها: أن يعلم غيره بما شهد به، ويخبره به، ويبينه له. ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به".

من رحمة الله عز وجل بالأمة الإسلامية أنه جعل التوحيد بطاقة نجاة في الدنيا، وعند السؤال في القبر، وكذلك في الآخرة. وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: (المسلم إذا سئل في القبر) يخبرنا فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن المسلم إذا سأله الملكان بعد موته ودفنه في القبر، فإنه يرد بالشهادتين: بالتوحيد لله، وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فيكون ذلك سببا في نجاته، وقد جاء في بعض الروايات أن المسلم يسأل عن ربه، ودينه، ورسوله الذي بعث فيه، فإذا أجاب العبد المؤمن وشهد: "أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، كان كما قال الله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}(إبراهيم:27).. والنطق بالشهادتين من توفيق الله عز وجل وتثبيته للمؤمنين، وهذا هو القول الثابت الذي لا يتغير في الدنيا والآخرة، فقد ثبت الله عز وجل به المؤمنين في الحياة الدنيا، ويثبتهم به في الآخرة، ويكون سببا لنجاتهم وفوزهم بالجنة.. وفي الحديث: (المسلم إذا سئل في القبر، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}(إبراهيم:27) إثبات سؤال القبر ونعيمه وعذابه، وتثبيت الله تعالى المؤمن في قبره بالتوحيد.. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة