قتادة السدوسي.. المفسر الموسوعي

0 108

هو قتادة بن دعامة، أبو الخطاب السدوسي البصري، كان ضريرا أكمه، وكان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ.
حافظ عصره، تابعي جليل، وعالم بالعربية واللغة وأيام العرب والأنساب.
نشأته وطلبه للعلم
ولد قتادة بالبصرة في سنة ستين، وهو العام الذي ولد فيه الأعمش، ونشأ بها، وسعى منذ الصغر في الطلب، واجتهد في الفهم والحفظ، وأتى العلماء وسمع منهم وأكثر من سؤالهم، وجالس أنس بن مالك الصحابي رضي الله عنه، وحفظ عنه حديثا كثيرا، ثم جالس الحسن البصري مدة طويلة، ولزمه وتفقه به، وانتفع بمجالسته ومواعظه، وحفظ عنه حديثا كثيرا، ووعى عنه مسائل كثيرة، قال قتادة: "جالست الحسن اثنتي عشرة سنة، أصلي معه الصبح ثلاث سنين".

ثم ارتحل إلى المدينة فلزم سعيد بن المسيب أياما يسأله عما يشكل عليه ويحفظ ما يجاب به ويعيه، لأنه كان يسأله عن مسائل درسها عند الحسن البصري وعرف أقواله فيها؛ فكان سعيد بن المسيب يتعجب من حفظه وضبطه. 

وجاور بمكة وسمع بها صحيفة جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قرئت عليه مرة واحدة فحفظها، وكان يحدث بها.
ولم يزل متعلما حتى مات رحمه الله وهو ابن ست أو سبع وخمسين سنة.

حفظه وضبطه:
كان قتادة آية في الحفظ والضبط، لا يكاد ينسى ما سمعه، على كثرة ما سمع من الأحاديث والآثار في علوم كثيرة، وكان العلماء يتعجبون من قوة حفظه، وحسن سرده للأحاديث والآثار. قال معمر بن راشد: سمعت قتادة يقول: ما سمعت أذناي شيئا قط إلا وعاه قلبي. وعن قتادة قال: تكرير الحديث في المجلس يذهب نوره، وما قلت لأحد قط أعد علي طبقات ابن سعد.
قال بكر بن عبد الله المزني: "من سره أن ينظر إلى أحفظ من أدركنا فلينظر إلى قتادة". 
وكان أحمد بن حنبل يقول: "كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئا إلا حفظه، وقرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها، وكان سليمان التيمي وأيوب يحتاجون إلى حفظه، يسألونه، وكان من العلماء، كان له خمس وخمسون سنة يوم مات". 
وعن عمران بن عبد الله قال: "لما قدم قتادة على سعيد بن المسيب جعل يسائله أياما وأكثر؛ فقال له سعيد: أكل ما سألتني عنه تحفظه؟ قال: نعم، سألتك عن كذا فقلت فيه كذا، وسألتك عن كذا فقلت فيه كذا، وقال فيه الحسن كذا. قال: حتى رد عليه حديثا كثيرا. قال سعيد: "ما كنت أظن أن الله خلق مثلك!!".

العالم الموسوعي

كان قتادة يعشق العلم ويسعى إليه حيث قدر عليه، ولا يفرط في شيء منه يمكنه بلوغه، ولذلك جمع من كل فن، وأتقن كثيرا من صنوفه، فكان حافظا حجة ثبتا، ومفسرا إماما في التفسير، وفقيها عالما باختلاف العلماء، ولغويا متقنا للعربية وعلومها، ونسابة ومؤرخا، يأتيه أهل البوادي، ويرحل إليه أهل الأمصار ليسألوه عما أشكل إليهم.

قال أحمد بن حنبل: كان قتادة عالما بالتفسير، وباختلاف العلماء، ثم وصفه بالفقه والحفظ ومدحه، ثم قال: قلما تجد من يتقدمه. وقال ابن حبان: "كان من علماء الناس بالقرآن والفقه وكان من حفاظ أهل زمانه، جالس سعيد بن المسيب أياما؛ فقال له سعيد: قم يا أعمى فقد نزفتني". وقال الذهبي: "كان قتادة أيضا رأسا في العربية، والغريب، وأيام العرب، وأنسابها، حتى قال فيه أبو عمرو بن العلاء: كان قتادة من أنسب الناس. ونقل القفطي في تاريخه أن الرجلين من بني أمية كانا يختلفان في البيت من الشعر، فيبردان بريدا إلى العراق، يسألان قتادة عنه"اهـ. وقال الذهبي أيضا: "كان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ".

شيوخه
روى قتادة عن عدد من الصحابة وكبار التابعين، فروى عن أنس بن مالك وأكثر عنه، وعبد الله بن سرجس، وأبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية الرياحي، وصفوان بن محرز، وأبي عثمان النهدي، وزرارة بن أوفى، والنضر بن أنس بن مالك، وعكرمة مولى ابن عباس، وأبي المليح ابن أسامة، والحسن البصري، وبكر بن عبد الله المزني، وعطاء بن أبي رباح، ومعاذة العدوية، وبشير بن كعب، وأبي الشعثاء جابر بن زيد، وخالد بن عرفطة، وشهر بن حوشب، وعبد الله بن شقيق، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، ومحمد بن سيرين، ونصر بن عاصم الليثي، وأبي مجلز، وعن عمران بن حصين، وسفينة مولى رسول الله، وأبي هريرة مرسلا، وعن مسلم بن يسار، وقزعة بن يحيى، وعامر الشعبي، وغيرهم.
وكان رحمه الله يرسل عن بعضهم، فقد كان على جلالة قدره وجودة حفظه ربما وقع منه تدليس، وهو مما انتقده عليه الحفاظ والأئمة، وهو شيء وقع فيه كثير من مشاهير المحدثين، والأئمة الحافظين، فإذا صرح بالسماع فهو حجة بإطلاق.

من روى عنه
وروى عنه خلق كثير منهم: أيوب السختياني، وابن أبي عروبة، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، ومسعر بن كدام، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن حازم، وحماد بن سلمة، وسلام بن أبي مطيع، وشهاب بن خراش، وحسام بن مصك، وخليد بن دعلج، وسعيد بن زربي، والصعق بن حزن، وعفير بن معدان، وموسى بن خلف العمي، ويزيد بن إبراهيم التستري، وأبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، وغيرهم كثير.
وله في تفسير ابن جرير وحده أكثر من خمسة آلاف رواية، وله في تفسير عبد الرزاق من طريق معمر نحو 1700 رواية، وله في غيرهما روايات كثيرة جدا.

مكانته وثناء العلماء عليه
قال الذهبي: وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع... ومع هذا فما توقف أحد في صدقه، وعدالته وحفظه.
وقال محمد بن سيرين: قتادة أحفظ الناس، وقال سعيد بن المسيب: ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة، وقال سفيان بن عيينة: قالوا: كان معمر يقول: لم أر في هؤلاء أفقه من الزهري وقتادة وحماد. 

وعن بكر المزني قال: "من سره أن ينظر إلى أحفظ من أدركنا، فلينظر إلى قتادة". وقال أحمد بن حنبل: كان قتادة عالما بالتفسير، وباختلاف العلماء، ثم وصفه بالفقه والحفظ ومدحه، ثم قال: قلما تجد من يتقدمه، وقال سفيان الثوري: وهل كان في الدنيا مثل قتادة؟، وقال ابن حجر العسقلاني: ثقة ثبت، وقال محمد بن سعد البغدادي صاحب الطبقات: كان ثقة مأمونا حجة في الحديث.، وقال العجلي: يكنى أبا الخطاب، بصري، تابعي، ثقة. وقال ابن أبي حاتم: "كان قتادة بارع العلم، نسيج وحده في الحفظ في زمانه، لا يتقدمه كبير أحد". وقد احتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأحاديثه في دواوين السنة كثيرة جدا.
قوله بالقدر
ومما انتقده عليه العلماء قوله بالقدر، وكان القول بالقدر قد شاع وانتشر في البصرة جدا، وقد استفاض عن قتادة أنه كان يقول بشيء من القدر، بسبب شبهة عرضت له، فكان يقول: "كل شيء بقدر إلا المعاصي"، من غير أن ينفي علم الله بالمعصية قبل وقوعها، وهذا قدر من القول بالقدر، وهو بدعة، ومنكر من القول، تعالى الله عن ذلك، لكنه أخف من قول القدرية نفاة العلم. وكان رحمه الله وغفر له يعلن بذلك ولا يخفيه، إلا أن بعض أهل العلم ذكروا أنه لم يكن يدعو إليه، ولا يخاصم به، كما قال العجلي: "كان يقول بشيء من القدر، وكان لا يدعو إليه، ولا يتكلم فيه".

وقد اشتد إنكار السلف لقول القدرية وتحذيرهم من بدعتهم، وأنكر أهل العلم على قتادة هذا حتى هجره بعضهم - كما فعل طاووس بن كيسان رحمه الله - "فكان إذا أتاه قتادة يسأله يفر منه"، وترك الإمام مالك بن أنس أحاديثه، وكان مالك ينتقد معمر بن راشد في روايته عن قتادة لذلك السبب.

ولكن الذي عليه أكثر الأئمة قبول روايته والاحتجاج بها، ثم استقر إجماعهم على ذلك؛ فإنه حافظ صدوق غير متهم في روايته، وقد تأول في بدعته فأخطأ، وهو معظم للسنة ومتبع لها في عامة أمره، وملازم للجماعة غير مفارق لها. 
وقد قال الذهبي رحمه الله في هذا كلاما دقيقا رقيقا رائقا رائعا منضبطا فقال في سير أعلام النبلاء في ترجمة قتادة: "وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر - نسأل الله العفو - ومع هذا؛ فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل. ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه. نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك).اهـ.

عبادته وورعه
وجاء في طبقات بن سعد وسير الذهبي عن أبي هلال قال: "سألت قتادة عن مسألة، فقال: لا أدري. فقلت: قل برأيك! قال: ما قلت برأيي منذ أربعين سنة. فقلت: ابن كم هو يومئذ؟ قال: ابن خمسين سنة".
قال الذهبي: "فدل على أنه ما قال في العلم شيئا برأيه".

وقال سلام بن أبي مطيع: كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة.

من أقواله
ومن جميل أقواله رحمه الله: "من يتق الله يكن الله معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل".
وقال: "باب من العلم يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح الناس أفضل من عبادة حول كامل".
وقال: "لو كان يكتفي من العلم بشيء، لاكتفى موسى بما عنده ولكنه طلب الزيادة".
ومن أقواله: "كان يقال: قل ما ساهر الليل منافق". ويقول: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء.
ومن مشهور ما ينسب إليه: الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر.

وفاته
مات في واسط بالعراق بمرض الطاعون، وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل مات سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة ومائة، وعلى هذا يكون عمره حين مات إما ستا وخمسين عاما، أو سبعا وخمسين. فرحمه الله ورضي عليه وعفا عنه.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة