التورية في القرآن الكريم

0 153

(التورية) نمط من التعبير فيه خلابة، وله أسر، ومادة (ورى) تدور في اللغة حول الاختفاء والستر؛ يقال: واريت كذا، إذا سترته. قال تعالى: {قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا} (الأعراف:26). وتوارى: استقر، قال سبحانه: {حتى توارت بالحجاب} (ص:32). وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان (قلما أراد غزوة، إلا وارى غيرها)، وفي رواية (إلا ورى بغيرها) رواه أحمد. قال الخليل: "الورى الأنام الذين على وجه الأرض في الوقت، ليس من مضى، ولا من يتناسل بعدهم، فكأنهم الذين يسترون الأرض بأشخاصهم".

و(التورية) في اصطلاح البلاغيين عرفها ابن أبى الإصبع بقوله: "أن تكون الكلمة تحتمل معنيين، ويستعمل المتكلم أحد احتماليها، ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله". وعرفها الخطيب القزويني فقال: "أن يطلق لفظ له معنيان: قريب وبعيد، ويراد به البعيد منهما". وعرفها العصام في (الأطول) بقوله: "أن يطلق اللفظ على غير ما وضع له بقرينة خفية مما يتعلق بإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة". وعرفها السيوطي بقوله: "أن يذكر لفظ له معنيان؛ إما بالاشتراك، أو التواطؤ، أو الحقيقة والمجاز، أحدهما قريب والآخر بعيد، ويقصد البعيد، ويورى عنه بالقريب، فيتوهمه السامع من أول وهلة". و(التورية) -وفق بعض المحدثين-: أن يذكر لفظ له معنيان: بعيد مراد، وقريب غير مراد". والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ظاهرة؛ لأن المعنى القريب غير المراد، يستر البعيد ويخفيه.

و(التورية) -بحسب أهل البيان- تتكون من ثلاثة عناصر؛ الأول: لفظ له معنيان. الثاني: معنى قريب، ويسمى المورى به. الثالث: معنى بعيد، ويسمى المورى أو المورى عنه. ولا بد في التورية من قرينة تدل على أن المراد هو المعنى البعيد للفظ، وقد تكون هذه القرينة عقلية، تفهم بقرينة المقام والأحوال، وقد تكون القرينة لفظية.

و(التورية) في القرآن الكريم لها وظيفة مهمة، وهي قريبة من (المجاز)، بل كثيرا ما يراد المعنى المجازي فيها، كإرادة القدرة من (اليد)، وقد ذكر السكاكي "أن متشابهات القرآن من قبيل التورية". فهي ذات دور مهم؛ لم تؤديه من معنى إضافي، أو تحسين عرضي. قال الزمخشري: "لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطف من التورية ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله". وألمح ابن عاشور إلى أن في (التورية) حسنا بإيهام أحد المعنيين مع إرادة غيره، ولا شك أنه عند إرادة غيره لا يكون المعنى الآخر مقصودا.

ومن الأمثلة القرآنية على (التورية) نذكر الآتي: 

- قوله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} (طه:5) فـ {استوى} له معنيان، قريب هو الاستقرار، وهو غير مراد، وبعيد مراد هو الاستيلاء، والقرينة استحالة الاستقرار الحسي في جانب الله. قال ابن عاشور: "ذكر (الاستواء) على (العرش) زيادة في تصوير عظمة الله تعالى وسعة سلطانه...وهو تمثيل لشأن عظمة الله بعظمة أعظم الملوك الذين يجلسون على العروش. وقد عرف العرب من أولئك ملوك الفرس وملوك الروم، وكان هؤلاء مضرب الأمثال عندهم في العظمة...فالآية من المتشابه البين تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة أن {ليس كمثله شيء} (الشورى:11)".

- قوله عز وجل: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} (الذاريات:47) أراد بـ (الأيدي) المعنى البعيد الذي هو القدرة، وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب الذي هو الجارحة المخصوصة، وهو {بنيناها} لأن البناء يكون باليد، والقرينة هي استحالة الجارحة في حق الله سبحانه. قال الطبري في تفسير الآية: "والسماء رفعناها سقفا بقوة" وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال ابن عاشور: "و(الأيد) القوة. وأصله جمع يد، ثم كثر إطلاقه حتى صار اسما للقوة، ومنه قوله تعالى: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد} (ص:17) والمعنى: بنيناها بقدرة، لا يقدر أحد مثلها". وقال السعدي: "{بأيد} أي: بقوة وقدرة عظيمة". وقال السعد التفتازاني في "المطول": "تمثيل وتصوير لعظمته، وتوقيف على كنه جلاله، من غير ذهاب بـ (الأيدي) إلى جهة حقيقة أو مجاز، بل يذهب إلى أخذ الزبدة والخلاصة من الكلام، من غير أن يتحمل لمفرداته حقيقة أو مجاز".

فما في هاتين الآيتين وما أشبههما، من إثبات العين، أو الوجه، أو القرب والمكان، كلها محمولة على التورية، بأن يراد من الأعين: الرعاية والحفظ، ومن الوجه: الذات التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، والقرب: قرب العلم لا قرب المكان والملاصقة، ومن العندية: العندية المعنوية، لا عندية المكان.

- ومنها قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام: {قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} (يوسف:95) (الضلال) يحمل على ضد الهدى، ويحتمل الحب، فاستعملوه مريدين به ضد الهدى، مورين به عن الحب؛ ليعلم أن المراد ما أهملوا، لا ما استعملوا. قال السعدي: "أي: لا تزال تائها في بحر الحب، لا تدري ما تقول".

- ومنها قوله عز من قائل: {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن:6) فإن (النجم) يطلق على الكوكب، ويرشحه له ذكر الشمس والقمر، ويطلق على ما لا ساق له من النبات، وهو المعنى البعيد له، وهو المقصود في الآية. قال الطبري بعد أن ذكر للسلف قولين في المراد من (النجم) في الآية، قال: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بالنجم: ما نجم من الأرض من نبت؛ لعطف الشجر عليه، فكان بأن يكون معناه لذلك: ما قام على ساق، وما لا يقوم على ساق يسجدان لله، بمعنى: أنه تسجد له الأشياء كلها المختلفة الهيئات من خلقه، أشبه وأولى بمعنى الكلام من غيره". وقال ابن عاشور: "ويطلق النجم على النبات والحشيش الذي لا سوق له، فهو متصل بالتراب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير (النجم) في هذه الآية بالنبات الذي لا ساق له".

- ومنها -بحسب ابن حجر- قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ:28) فإن {كافة} بمعنى مانع، أي: تكفهم عن الكفر وتمنعهم من المعصية، والهاء للمبالغة، وهذا معنى بعيد، والمعنى القريب المتبادر أن المراد جامعة، بمعنى جميعا، لكن منع من حمله على ذلك، أن التأكيد يتراخى عن المؤكد، فكما لا تقول: رأيت جميعا الناس، لا تقول: رأيت كافة الناس.

- ومنها -بحسب الزركشي- قوله عز وجل: {وجوه يومئذ ناعمة} (الغاشية:8) أراد بها في نعمة وكرامة، وهذا معنى بعيد خفي، والسامع يتوهم أنه أراد من النعومة، وهذا معنى قريب ظاهر.

- ومنها قول الباري سبحانه: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون} (الإنسان:19) أي: مقرطون، تجعل في آذانهم القرطة، والحلق الذي في الأذن يسمى قرطا وخلدة، والسامع يتوهم أنه من الخلود. قال أبو عبيدة: مخلدون: محلون بالخلدة، بوزن قردة، واحدها خلد، كقفل، وهو اسم للقرط في لغة حمير.

- ومنها قوله سبحانه: {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} (محمد:6) أي: علمهم منازلهم فيها، والسامع يتوهم إرادة العرف، الذي هو الطيب. عن مجاهد قال: "يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم لا يخطئون، كأنهم سكانها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدا".

- ومنها قوله عز وجل: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} (الأنعام:60) فلفظ: {جرحتم} في الآية الكريمة له معنيان؛ قريب ظاهر غير مراد، وهو إحداث تمزق في الجسد، والثاني: بعيد خفي المراد، وهو ارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي.

- ومنها قول الله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة:29) فلفظ: {يد} له معنيان: قريب واضح، وهو الجارحة المعروفة، وبعيد خفي، وهو الذلة والاستكانة، والمراد هو المعنى البعيد، وقد قرنت التورية بما يلائم المعنى القريب المورى به، وهو قوله: {يعطوا} لأن الإعطاء عادة يقع باليد.  

- ومنها قوله سبحانه: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} (المائدة:64) قال الطبري: "يعنون: أن خير الله ممسك، وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء:29) وإنما وصف تعالى (اليد) بذلك، والمعنى العطاء؛ لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشح وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه...ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم، فقال: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} يعني بذلك: أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا، ويمنعنا فضله فلا يفضل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء، ولا بذل معروف، تعالى الله عما قالوا، أعداء الله. فقال الله مكذبهم ومخبرهم بسخطه عليهم: {غلت أيديهم} يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات، وقبضت عن الانبساط بالعطيات، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك، بل يداه سبحانه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه، غير مغلولتين ولا مقبوضتين، يعطي هذا، ويمنع هذا فيقتر عليه". وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في المراد من الآية قوله: "ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكنهم يقولون: إنه بخيل، أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا".

- ومنها قوله تعالى: {وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين} (الدخان:19) قال الآلوسي: "فيه تورية عن معنى (الملك) مرشحة بقوله {لا تعلوا}".

- أخيرا لا آخر، قوله عز وجل: {وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون} (الأنعام:126) قال ابن عاشور: "المراد بـ {الآيات} آيات القرآن، ومن رشاقة لفظ {الآيات} هنا أن فيه تورية بآيات الطريق التي يهتدي بها السائر".

فتحصل مما تقدم أهمية أسلوب التورية، وأنه جار على سنن العرب في الكلام، وتبين أيضا أهمية الوقوف عليها لفهم كلام الله سبحانه، وكشف مراده، والله أعلم وأرحم. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة