مَنْ مَات وهو يَدْعو مِنْ دونِ اللَّه نِدًّا دخل النار

0 79

عبادة الله هي الغاية التي خلق الله عز وجل جميع الخلق لأجلها، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون}(الذاريات:56). قال السعدي: "هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه". وعبادة الله تعالى وتوحيده وعدم الإشراك به حقه سبحانه على العباد جميعا. عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معاذ: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) رواه البخاري. والمعنى العام للعبادة كما قال ابن تيمية في "العبودية": "العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة.. وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له، التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات:56)". وقال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال"..
والدعاء ـ وهو طلب جلب النفع أو دفع الضر ـ من أفضل وأعظم العبادات، لاشتماله على الذل والخضوع لله عز وجل. عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة، ثم قال: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}(غافر:60)) رواه الترمذي. قال الخطابي: "ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه عز وجل العناية، واستمداده إياه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة". وقال الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير": "قال الطيبي: جاء بضمير الفصل والخبر المعرف باللام ليدل على الحصر لأن العبادة ليست غير الدعاء، وقال غيره: المعنى أنه أعظم العبادة فهو كخبر: (الحج عرفة) أي: ركنه الأكبر لدلالته على أن فاعله مقبل على الله تعالى معرض عما سواه، ولأنه مأمور به، وفعل المأمور به عبادة، وسماه عبادة ليخضع الداعي ولأنه يظهر ذلته ومسكنته وافتقاره، إذ العبادة ذل وخضوع ومسكنة".. وقال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}(غافر:60): "هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه، أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، كما كان سفيان الثوري يقول: "يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب" رواه ابن أبي حاتم. وفي هذا المعنى يقول الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب"..

من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار:
دل القرآن الكريم والسنة النبوية على تحريم دعاء غير الله عز وجل، والتصريح بأن ذلك من الشرك الذي يدخل صاحبه النار، ومن ذلك:
ـ قال الله تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون}(الأحقاف:5). قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وأي عبد أضل من عبد يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب له إلى يوم القيامة: يقول: لا تجيب دعاءه أبدا، لأنها حجر أو خشب أو نحو ذلك. وقوله: {وهم عن دعائهم غافلون} وآلهتهم التي يدعونهم عن دعائهم إياهم في غفلة، لأنها لا تسمع ولا تنطق، ولا تعقل.. وإنما هذا توبيخ من الله لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم، وقبح اختيارهم في عبادتهم من لا يعقل شيئا ولا يفهم، وتركهم عبادة من جميع ما بهم من نعمته، ومن به استغاثتهم عندما ينزل بهم من الحوائج والمصائب".
ـ قال الله تعالى: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين}(يونس:106). قال السعدي: "وهذا وصف لكل مخلوق، أنه لا ينفع ولا يضر، وإنما النافع الضار، هو الله تعالى. {فإن فعلت} بأن دعوت من دون الله، ما لا ينفعك ولا يضرك {فإنك إذا من الظالمين} أي: الضارين أنفسهم بإهلاكها، وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}(لقمان:13) فإذا كان خير الخلق، لو دعا مع الله غيره، لكان من الظالمين المشركين فكيف بغيره؟!!".
ـ وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) رواه الترمذي. قال الشيخ ابن عثيمين: "(إذا سألت فاسأل الله) إذا سالت حاجة فلا تسأل إلا الله عز وجل ولا تسأل المخلوق شيئا، وإذا قدر أنك سألت المخلوق ما يقدر عليه، فاعلم أنه سبب من الأسباب وأن المسبب هو الله عز وجل، لو شاء لمنعه من إعطائك سؤالك فاعتمد على الله تعالى..(وإذا استعنت فاستعن بالله) فإذا أردت العون وطلبت العون من أحد فلا تطلب العون إلا من الله عز وجل، لأنه هو الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهو يعينك إذا شاء وإذا أخلصت الاستعانة بالله وتوكلت عليه أعانك، وإذا استعنت بمخلوق فيما يقدر عليه فاعتقد أنه سبب، وأن الله هو الذي سخره لك. وفي هاتين الجملتين دليل على أنه من نقص التوحيد أن الإنسان يسأل غير الله".
ـ وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أخرى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يدعو من دون الله ندا (الند: المثل والنظير) دخل النار، وقلت أنا: من مات وهو لا يدعو لله ندا دخل الجنة) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم وغيره: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات يشرك بالله شيئا دخل النار. وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة).. وفي هذا الحديث النبوي: التحذير من الشرك بالله عز وجل وبيان عظيم خطره.. وفيه: بيان فضل الإيمان بالله تعالى وتوحيده، فكما أن المشرك يدخل النار، فمن ليس يشرك - وهو المؤمن الموحد - يدخل الجنة.. قال ابن حجر: "كأن ابن مسعود لم يبلغه حديث جابر الذي أخرجه مسلم بلفظ: (قيل يا رسول الله: ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار). وقال النووي: الجيد أن يقال سمع ابن مسعود اللفظتين من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه في وقت حفظ إحداهما وتيقنها ولم يحفظ الأخرى، فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها، وفي وقت بالعكس، قال: فهذا جمع بين روايتي ابن مسعود وموافقته لرواية غيره في رفع اللفظتين". وقال العيني: "والذي يظهر أنه نسي مرة، وهي الرواية الأولى، وحفظ مرة وهي الأخرى، فرواهما مرفوعين كما فعله غيره من الصحابة".
وقال الشوكاني: "وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره ولا من غيره، {فلا تدعوا مع الله أحدا}(الجن:18)، {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء}(الرعد:14)".
وقال ابن القيم في "مدارج السالكين": "(ومن أنواعه (الشرك) طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده".
وقال ابن تيمية: "وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضي دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا شرك صريح".
وقال الشيخ ابن عثيمين في تعليق له على كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم": "سؤال الميت أن يسأل الله أو سؤال قضاء الحاجة بينهما فرق، إذا سأل قضاء الحاجة فهذا شرك أكبر، وإذا سأل أن يسأل الله فهذا بدعة وضلالة، لأن الميت إذا مات انقطع عمله، والدعاء من عمله، فكيف تسأله ما لا يمكن؟! فإذا جئت إلى ميت وقلت: ادع الله لي، فإنه لن يدعو الله لك، ومن ذلك تقول عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم: اشفع لي، فإن هذا حرام وبدعة منكرة، لكن إذا قلت: يا رسول الله أنجني من النار، كان شركا أكبر"..

الدعاء لا يكون إلا لله تعالى وحده لا شريك له، فمن دعا غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ـ سواء كان هذا الغير المدعو نبيا، أو وليا، أو صالحا ـ من الأمور الشركية التي ينبغي الحذر منها، قال الله تعالى: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}(يونس:107:106). قال ابن تيمية: "ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان، أن يدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم". وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار) رواه البخاري.. فالتوجه بالدعاء لغير الله عز وجل صورة من صور وأفعال الشرك بالله، والحكم على العمل أنه شرك لا يعني بالضرورة أن فاعله أصبح كافرا أو مشركا، فالحكم على الفعل شيء، والحكم على الفاعل شيء آخر، وليس كل من وقع في أفعال وأقوال الشرك والكفر، وقع الكفر والشرك عليه، إلا إذا أقيمت عليه الحجة، وذلك لاحتمال أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام، أو يكون جاهلا بهذا الأمر لا سيما في هذا الزمان، فالحكم على إنسان بالكفر أمر من الخطورة بمكان عظيم، ينبغي الحذر منه والابتعاد عنه.. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة