مصدرية السنة النبوية

0 66


السنة النبوية ثروة عظيمة في حياة المسلمين العلمية والعملية، وعلى قدر ما يأخذ المسلمون منها حفظا وفهما على قدر ما ينالون ميراثهم من النبوة، ولكننا على مستوى عموم المسلمين نلحظ ضعفا في الأخذ من هذا الميراث العظيم، الذي يكتنز داخله وحيا نافعا، وتوجيهات سامية، وعبارات من الحكمة والقول البليغ، ونحن نرى أهل الملل والفلسفات يرددون عبارات لحكمائهم، وينشرون جملا لزعمائهم، ويذيعون بها في المحافل والمؤتمرات، ويحولونها إلى طاقة روحية في أتباعهم، والمسلمون أولى بنشر كلام نبيهم، والاهتمام به، وتمثله في حياتهم، وإدماجها في معارفهم ومناهجهم وطرائق تفكيرهم.

السنة مصدر للعلم والمعرفة:
من خلال الوظيفة البيانية للسنة النبوية يتبين مدى مصدريتها للعلم والمعرفة، ففي السنة بيان، وتفسير، وتخصيص، وتقييد، إضافة إلى الأحكام التأسيسية التي وردت فيها، وفيها أخبار عن مغيبات، وآداب وفضائل، وأحكام وعقائد، فلا يطرقها الباحث من أي زاوية إلا ووجد فيها ما يلبي الاحتياج وزيادة، ولم تزل البحوث في السنة النبوية تتوالى وتتجدد بتجدد النظر والبحث، وتفيض على مجالات العلم والمعرفة بمعارف لا تنضب ولا تحجب، ولذلك كانت موضع اهتمام من المسلمين عبر القرون، ولا سيما في القرون الفاضلة، فقد كانوا يحرصون على حفظها، وضبط تلقيها رواية ودراية، ويرحلون الأيام والشهور في طلب نص واحد من نصوصها.
فقد رحل جابر بن عبد الله من المدينة إلى الشام أو مصر في طلب حديث واحد، وخرج أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره وغير عقبة، فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري - وهو أمير مصر - فأخبره، فخرج إليه فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغير عقبة فابعث من يدلني على منزله، قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة فعجل فخرج إليه فعانقه، فقال ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة، فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وفي تذكرة الحفاظ عن سعيد بن المسيب قال: "إن كنت لأسير ثلاثا في الحديث الواحد". 
 
السنة مصدر للبيان:
العلم بالسنة حفظا وفهما من أعظم ما ينمي ملكة البيان، وذلك يفيد الإنسان في بيانه ووصول مقصده، فلو أراد أن يتحدث في قضية من القضايا كلاما إنشائيا فسيطيل الكلام، وربما استعجم عن بيان ما يرومه من المعاني، ولكن في البيان النبوي غنية عن كثير من الكلام، وقد بين هذا المعنى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في عبارة موجزة واضحة لمن عقل وتدبر فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحرا.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي.
فقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا، بحيث كان يتكلم بالكلام القليل لفظه، الكثيرة معانيه، ومع كمال الوضوح والبيان الذي هو أعلى رتب البيان.
ولذلك نجد أن الكلام النبوي له نور يضيء البصائر، وله وقع يأخذ بالألباب، وله أثر في النفوس والوجدان، ولا غرابة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح من تكلم، وأبلغ من وعظ، وهذا يحفز على حفظ كلامه، ولا سيما لمن يتولى البلاغ عنه إلى أمته، ففي سنن الترمذي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. وفي رواية ابن حبان: فبلغه كما سمعه وفي ذلك حث على مزيد الاعتناء باللفظ النبوي، والتطابق بين التحمل والأداء، وإذا روى بالمعنى راعى شروط ذلك.
ومن واقع الحال فإن المتحدث إذا حافظ على اللفظ النبوي، وألقاه كما هو، مبينا معنى ما غمض من ألفاظه، فإن لكلامه جلالة وهيبة، بخلاف ما إذا خرم لفظه، ورواه بالمعنى، فلا يكون له نفس الأثر على السامع، وهذا أمر محسوس لا يمكن إنكاره.
 
السنة النبوية مصدر للتربية والتزكية:
مما لا يخفى على مسلم أن الهداية إنما تحصل للإنسان بالوحي المنزل، كما قال الله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب) سبأ: 50. والسنة وحي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلالها يتأسى المسلم بالأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم، ففيها هديه وسيرته، وأمره ونهيه، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أزكى الناس نفوسا، وأنقاهم سريرة، وأشبه الناس بهم الذين يتلمسون بصائر التزكية من خلال مطالعة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، وعبادته وزهده، ولن يفلح من طلب ذلك في غير ما جاء به عليه الصلاة والسلام.
فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يدركون عظمة تلك التعاليم النبوية، ويرونها مصدر نجاتهم مع القرآن الكريم، وكانوا أحرص ما يكونون على تلقيها وضبطها والعمل بها.
ففي مسند الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، وإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ".
وفي صحيح البخاري عن علي ين أبي طالب رضي الله عنه: أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فقال: ألا أخبرك ما هو خير لك منه؟ تسبحين الله عند منامك ثلاثا وثلاثين وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين وتكبرين الله أربعا وثلاثين، قال علي رضي الله: "فما تركتها بعد"، قيل: ولا ليلة صفين؟ قال: "ولا ليلة صفين".
وروي في السير عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان قال: "ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة".
وفي الجامع للخطيب وقال الإمام أحمد بن حنبل: "ما كتبت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به، حتى مر بي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا، فأعطيت الحجام دينارا حتى احتجمت".
والوصول إلى هذه الدرجة من التمسك بالسنة، والحفاظ عليها في جوانب الحياة لا يأتي إلا بالتدرج والتنشئة على ذلك؛ حتى تترقى النفس وتتربى على تعظيم سنة النبي صلى الله علي وسلم، ففي شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "حافظوا على أبنائكم في الصلاة وعودوهم الخير فإن الخير عادة".
وقال النووي رحمه الله تعالى في كتاب الأذكار: اعلم أنه ينبغي لمن بلغه شيء في فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة واحدة ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه مطلقا، بل يأتي بما تيسر منه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. والمعنى: قدر استطاعتكم بعد الإتيان بالقدر الواجب الذي لا بد منه.
فكل عمل من هذه الأعمال له مستويات ودرجات والترقي يؤخذ بالترويض يوما بعد يوم، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، ولا نظن أن ما نسمع عن السلف من اجتهاد في الأعمال الصالحة جاء طفرة وفجأة إنما جاء بالتدريج والتربية والتعويد سواء كان في تربية الإنسان لنفسه، أو تربية المربي لغيره، فلا يمكن أن يحصل الشخص كل أبواب الخير وبأعلى درجة مرة واحدة، وليس مطلوبا منه ذلك إنما البناء يكون بالمجاهدة والمصابرة وبالرياضة، وأن يبدأ رحلة المجاهدة وفي نيته إتمامها، ولو مات قبل إكمالها فإنه يكتب له ثواب ما نوى.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة