السيرة النبوية والاهتمام بحقوق الإنسان

0 89

حقوق الإنسان من القضايا التي تشكل أهمية قصوى من بين القضايا التي تهم العالم المعاصر شرقا وغربا، وإن الناظر والمتأمل في السيرة النبوية بإنصاف يرى بصورة واضحة أنها كانت نموذجا عمليا وفريدا في الاهتمام بحقوق الإنسان وحمايتها.. وللنبي صلى الله عليه وسلم فضل السبق على كافة المواثيق الدولية في تناوله لحقوق الإنسان، وذلك لتأصيله لتلك الحقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، ومواقفه وكلماته صلى الله عليه وسلم خير دليل وشاهد على اهتمامه بحقوق الإنسان وحفظها وحمايتها.. والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف والأحداث الدالة على ذلك، ومنها:

1 ـ الوثيقة الإسلامية في المدينة المنورة:
من الخطوات الهامة التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنائه للدولة الإسلامية الجديدة في المدينة المنورة، إصداره لوثيقة نظم بموجبها العلاقات بين المجتمع المسلم الجديد نفسه، وبينه وبين الكتل البشرية التي تعايشت في المدينة حينئذ وبخاصة اليهود.. وقد أقامت وأرست هذه الوثيقة مبادئ حقوق الإنسان لكل أبناء الدولة الإسلامية الأولى من المهاجرين والأنصار واليهود والمشركين، ونظمت العلاقات بينهم، ونصت على كفالة حرية المعتقد، ودعت إلى التعايش السلمي والتعاون، وحسن الجوار والعدل.. ومما ورد في هذه الوثيقة ـ كما ذكر ابن هشام في "السيرة النبوية" ـ: "(بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، وأن المؤمنين لا يتركون مغرما (ثقيل الدين) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (كبيرة) ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم.. وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.. وأنه لا يحل لمؤمن أقر ما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا (مجرما) ولا يؤويه.. وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم - مواليهم وأنفسهم - إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته. وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح. وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم)"..
والمتأمل في بنود هذه الوثيقة يدرك مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود وإقراره لهم بحقوقهم الإنسانية وخاصة حرية وحق المعتقد، ولم يكن هذ الأمر من العدل معهم ومراعاة حقوقهم، مرحلية مؤقتة ريثما يتسنى للرسول صلى الله عليه وسلم القضاء على أعدائه في الخارج، كلا، إنما صدر هذا الموقف النبوي على أساس أن اليهود ـ باعتبارهم أهل كتاب ـ سيتجاوبون مع الدعوة الجديدة وما فيها من معاني العدل والرحمة وحقوق الإنسان، وسيكفون أيديهم عن إثارة المشاكل والعقبات ووضع العراقيل في طريق الإسلام وهو يبني دولته الجديدة.. لكن الذي حدث بعد إصدار هذه الوثيقة، وخلال سنوات العصر المدني كلها، من غدر اليهود ونقضهم للعهد والميثاق، وتآمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، غير مجرى العلاقات بين المسلمين واليهود، وما ذلك إلا لأن اليهود اختاروا الغدر على الوفاء، والخيانة على الأمانة..
وهذه الوثيقة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم منذ ألف وأربعمائة سنة، ترسخ وتقرر حرية العقيدة، وحرمة المال، وحرمة الدماء، وقد كانت كل عهود النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى دليلا قاطعا على كفالة الحرية الشاملة لهم، وخاصة حرية المعتقد.. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعرض أتباعه في أول ظهوره في مكة لكل وسائل التعذيب والإيذاء من المشركين، ومحاولة إجبارهم على ترك دينهم، ـ ومع ذلك جعل حرية الاعتقاد حقا مكفولا للناس جميعا، ولم يجبر أحدا على اعتناق الإسلام، وذلك لأن الله تعالى أرشده وأرشد المؤمنين إلى عدم إكراه الناس على الإسلام، قال الله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}(البقرة:256). قال ابن كثير: "يقول تعالى: {لا إكراه في الدين} أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا، وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عاما". وقال السعدي: "يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا"..
2 ـ تحرير الإنسان من الرق:
الرق في اللغة: العبودية، وسمي العبيد رقيقا، لأنهم يرقون لمالكهم، ويذلون ويخضعون، والرقيق هو المملوك.. والإسلام لم يدع إلى الرق كما يشاع عنه ويفترى عليه، بل جاء الإسلام ونظام الرق قائما مستقرا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وبما يحمله من شريعة الإسلام بالعمل على تحرير الأرقاء الواقعين تحت وطأة الرق، ففتح أبوابا كثيرة للقضاء على الرق ليتحرر الناس منه، فشرع عتق رقبة كفارة لليمين، وغير ذلك من بعض الأحكام.. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة إلى الإحسان إلى الأرقاء والخدم والعبيد، بل وتحريرهم من الرق والعبودية، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (هم (خدمكم وعبيدكم) إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أعتق امرأ مسلما، استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار) رواه البخاري. والعتق: هو التحرير من الرق، وقد جعل الله عز وجل هذا العتق سببا في إنقاذ المعتق وتخليصه من النار بعد استحقاقه دخولها. قال المهلب: "في هذا الحديث فضل العتق، وأنه من أرفع الأعمال، ومما ينجي الله به من النار، وفيه أن المجازاة قد تكون من جنس الأعمال، فجوزي المعتق للعبد بالعتق من النار". بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم كفارة من لطم مملوكه أن يعتقه. عن زاذان قال: (أتيت ابن عمر وقد أعتق مملوكا، قال: فأخذ من الأرض عودا أو شيئا، فقال: ما فيه من الأجر ما يسوى هذا، إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من لطم مملوكه، أو ضربه، فكفارته أن يعتقه) رواه مسلم. قال النووي: "في هذا الحديث الرفق بالمماليك، وحسن صحبتهم، وكف الأذى عنهم، وأجمع المسلمون: على أن عتقه بهذا ليس واجبا، وإنما هو مندوب، رجاء كفارة ذنبه فيه، إزالة إثم ظلمه"..
3 ـ حقوق الإنسان في الحرب:
السيرة النبوية والتاريخ يشهدان أنه لم تعرف البشرية محاربا أرحم بأعدائه ومراعيا لحقوق الإنسان ـ أثناء الحرب وقبلها وبعدها ـ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباستقراء سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم في المعارك الحربية المختلفة، سواء المعارك التي قادها بنفسه (الغزوات)، أو ما كان يوصي به صحابته وقادته في عملياتهم ومعاركهم الحربية (السرايا) يتضح لنا المنهج الأخلاقي ـ وما فيه من مراعاته لحقوق الإنسان ـ الذي وضعه وأمر به وطبقه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أثناء القتال وبعده..
ذكر ابن هشام في "السيرة النبوية": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما أرسله إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل، فقال له: اغزوا جميعا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم". وعن سليمان بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا) رواه مسلم. وعن عبيد الله عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان) رواه البخاري. وفي الحديث: مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لحقوق غير المقاتلين من النساء والأطفال ومن في حكمهم.. ومما لا شك فيه أن النهي النبوي الشديد عن قتل الضعفاء الذين لم يشاركوا في القتال، كالنساء والأطفال، شيء تفردت به سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في تاريخ الحروب، وما عرف قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى اليوم مثل هذا الهدي الفريد المليء بالرحمة ومراعاة حقوق الإنسان. قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تغدروا) بكسر الدال، والوليد: الصبي، وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا، وكراهة المثلة، واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى، والرفق بأتباعهم، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم، وما يحل لهم وما يحرم عليهم، وما يكره وما يستحب".. فإذا وضعت الحرب أوزارها، ووقع بعض المقاتلين من الكفار أسرى في أيدي المسلمين، راعى النبي صلى الله عليه وسلم معاني الكرامة والحقوق الإنسانية فقال: (استوصوا بالأسارى خيرا) رواه الطبراني. فعلى الرغم من أن هؤلاء الأسرى ما هم إلا محاربون للإسلام، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهم وأمر بالإحسان إليهم، وقرر لهم واجبات وحقوقا على المسلمين، منها: الحرية الدينية، والحق في الطعام، والكسوة، والمعاملة الحسنة، وكل ذلك له شواهد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم..
4 ـ خطبة حجة الوداع وما فيها من حقوق الإنسان:
أكدت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ـ قبيل وفاته ـ على جملة من الحقوق الإنسانية وأهمها: العدل والمساواة، وحرمة الدماء والأموال والأعراض.. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أن أساس التفاضل بين الناس لا عبرة فيه لجنس، ولا لون، ولا وطن، ولا قومية، فقرر مبدأ المساواة بين البشر، ونبذ العنصرية والمفاخرات العرقية.. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة له في حجة الوداع: (يا أيها الناس إن ربكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم) رواه أبو نعيم والبيهقي. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: (يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟) رواه البخاري. قال ابن حجر: "قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة، وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم به، ولذلك قال بعدها: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء". وقال النووي: "(فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) معناه: أن تحريم هذه الأمور متأكدة شديدة، وفي هذا دليل لضرب الأمثال، وبإلحاق النظير بالنظير قياسا".
5 ـ الوصية بالنساء:
المرأة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مظلومة مهضومة الحقوق، متدنية في مكانتها ومنزلتها، بل انتهى بها الأمر إلى وأدها في مهدها وهي طفلة صغيرة، فلما جاء وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أعاد لها مكانتها، ورفع الظلم عنها، وأوصى بها وبحقوقها، فأصبحت عرضا مصانا، ومخلوقا له قدره ومنزلته، وقد أحاطها النبي صلى الله عليه وسلم بسياج من الحب والرعاية، والعناية والاهتمام، وخصها بالتكريم وحسن المعاملة: أما، وزوجة، وابنة، وقد بلغ من شدة اهتمامه صلوات الله وسلامه عليه وسلم بالمرأة أن أوصى بها في خطبته في حجة الوداع قبيل وفاته بقوله: (استوصوا بالنساء خيرا). قال القاضي عياض: "الاستيصاء قبول الوصية، والمعنى أوصيكم بهن خيرا فاقبلوا وصيتي فيهن"..

الناظر والمتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يرى واضحا جليا مدى اهتمامه وحمايته لحقوق الإنسان بغض النظر عن دينه أو جنسه، أو لونه أو وطنه، وصياغته وإقامته المجتمع الأول في المدينة المنورة على أصول ومبادئ تؤكد على هذه الحقوق وتحميها، ولم يترك النبي صلى الله عليه وسلم حقا من حقوق الإنسان إلا وأتى وأوصى به مجملا أو مفصلا، بأقواله وأفعاله.. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة