اقتضاء العلم العمل

0 131

أفضل الفضائل تحصيل العلم، وطلب الزيادة منه أمر رباني {وقل رب زدني علما}[طه:114]، وقد ميز الله أهل العلم على من سواهم، فقال: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}[الزمر:9]، ورفعهم الله على من عداهم {‏‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}[المجادلة:11]، فهم أتقى الناس، وأكثرهم لله خشية {إنما يخشى الله من عباده العلماء}[فاطر:28].

غير أن العلم لا ينفع صاحبه حتى يعمل به، فإن تعلم ولم يعمل كان أهلا للذم والقدح، وقد ذم الله في كتابه أقواما علموا ولم يعملوا، وقالوا ولم يفعلوا، وأمروا بالبر ولم يأتوه، ونهوا عن الشر وواقعوه، فبكتهم سبحانه في كتابه وعيرهم فقال: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون . كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}[الصف:2-3].

وقال لقوم خالفت أفعالهم أقوالهم: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}[البقرة:44].
ولا شك أن الذم والتقريع والتبكيت هنا ليس واقعا على الأمر بالبر، وإنما على أمر الناس وترك أمر النفس به، ووعظ الناس دون النفس.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان سيسأل عن علمه وماذا عمل فيه، فقال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)[الترمذي].

وقد ضرب الله مثلا لمن تعلم ولم يعمل بأقبح الحيوانات، فقال عن علماء اليهود: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا}[الجمعة:5]، فالرجل الذي لا ينتفع بعلمه كالحمار يحمل الأسفار ولا يفقه شيئا مما فيها:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ .. .. والماء فوق ظهورها محمول

وضرب سبحانه مثلا للعالم الذي لا يعمل بعلمه بالكلب الذي يلهث على كل حال، {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ۚ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ۚ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ۚ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}[الأعراف].

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من علم لا ينفع، فمن دعائه صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم إني أعوذ بك من الأربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع)[صحيح أبي داود]، والعلم إنما ينفع إذا عمل به، والقلب لا يخشع إلا إذا طبق ما يعلمه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)رواه الطبراني،  وقد قيل: إن قوما يأمرون بالذي لا يفعلون لمجانين.
وغير تقي يأمــر النــاس بـالتقى     طبيب يداوي الناس وهو مريض
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى     وريح الخطــايا من ثيـابك تسطع
وقد ألف الإمام الحافظ الخطيب البغدادي في هذا الباب كتابه العظيم (اقتضاء العلم العمل)، وأورد فيه من أدلة القرآن والسنة وأقوال أهل العلم ما يثير الهمة عند كل عالم وطالب علم للاعتناء الشديد بالعمل، وروى قول بعضهم: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.

أئمة مضلون
والإنسان إذا لم يعمل بعلمه كان فتنة للخلق، ولعوام الناس، وربما كان سببا في إضلالهم، فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون"رواه ابن حبان وصححه الألباني.

وإنما كانوا بلاء وفتنة من جهتين أو جهات: أن يزينوا للناس الباطل، ويلووا ألسنتهم بالكتاب، لغاية أو إرضاء لكبير أو عظيم. والجهة الثانية: أن يخالف فعلهم أقوالهم فيفتن الناس بأفعالهم، ويظنون باطلهم حقا لاشتهارهم بالعلم.. أو يكونون فتنة للناس بأن يترك الناس الحق الذي يتكلمون به ويأمرون، لما يرونهم عليه من الباطل؛ كما قال ابن القيم رحمه الله: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا؛ قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق".

ولهذا قال النبي الصالح شعيب عليه السلام لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} [هود:88].

وأما في الآخرة فالخطب أجل، والأمر أدهى وأمر، حيث روى البخاري عن أسامة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتنذلق أقتابه، فيدور بها في النار، كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار، فيقولون: يا فلان! ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).

ومما ينسب لأب العتاهية:
يا واعظ الناس قد أصبحت متـهمـا      إذ عبت منهم أمورا أنت تاتيها كالملبس الثوب من عري وعورته      للنــاس باديــة مـا إن يواريــها وأعظم الإثم بعــد الشرك نعــلمه     في كل نفس عماها عن مساويها وشغلــها بعيوب الناس تبصـرها     منهم ولا تبصر العيب الذي فيها
وقال غيره
يأيها الرجــل المعــلم غيــره     هــلا لنفسـك كان ذا التعليم ونراك تصلح بالرشاد عقولنا     أبدا وأنت من الرشاد عديم ابدأ بنفسك فانهـها عن غيــها     فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقـول ويهتدى     بالقـول منك، وينفع التعـليم

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة