انقطع عمله إلا من ثلاث

0 305

الحمد لله حقا حقا، ما زال للثناء أهلا، كما كان دائما وأبدا للحمد مستحقا، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعبدا ورقا.. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أجمل الناس خلقا، وأكملهم خلقا، وأشدهم رحمة وبرا ورفقا.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، تسليما كثيرا .. وبعد:
فإن المسلم يعلم أن له في هذه الحياة أجلا محدودا وعمرا معدودا، ثم ينتقل بعد انتهاء الحياة وانقضاء العمر إلى ربه سبحانه وتعالى؛ ليحاسبه على ما عمل؛ ولذا فهو يسعى لفعل ما يقدر عليه من الطاعات والقربات، وجمع ما يستطيعه من الحسنات، والبعد قدر طاقته عن الآثام والسيئات؛ حتى يلقى ربه بعمل يبيض به وجهه عنده {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}[آل عمران: 106].


والعاقل الموفق هو الذي يعلم أنه إذا مات انقطع عمله، وأن العمل إنما هو في فترة العمر، وأن كل من مات تحسر بعد موته: إن كان مسيئا تحسر على إساءته وتقصيره، وإن كان محسنا، تحسر على أنه لم يزد في إحسانه، ويكثر من طاعاته، فهو يذكر نفسه دائما بهذه الحقيقة..
كما روي عن يزيد الرقاشي أنه كان يقول لنفسه: (ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من كان الموت طالبه.. والقبر بيته.. والتراب فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كي يكون حاله؟) ثم يبكي رحمه الله.

وكان علي رضي الله عنه يقول: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".

ومات صاحب لبعض الصالحين فأتاه في النوم فقال: "إنما نحن معاشر الأموات نعلم ولا نعمل، وأنتم معاشر الأحياء تعملون ولا تعلمون، ووالله لتسبيحة واحدة أحب إلى أحدنا من الدنيا وما فيها".

إن انفلات الروح وانقضاء الحياة معناه انقطاع العمل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن تمني الموت، ويقول: (لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا)[رواه مسلم]. فإما محسن فيزيد في إحسانه، وإما أن يكون مسيئا فيستعتب ويتوب ويستغفر.

أقل عمرا وأعظم أجرا
هذه الأمة هي آخر الأمم، وهي أقصر الأمم أعمارا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك)[رواه الترمذي]. وبالتالي فهي أقل الأمم أعمالا لقصر أعمارها، غير أن الله تعالى عوضها ـ ببركة نبيها ـ عن قصر الآجال بعظم الأجور وكثرة الثواب، فهي أعظم الأمم أجرا، وأكثرها ثوابا.
فمن ذلك أن الله أكرمها بليلة القدر، {وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر}[القدر: 2ـ3]، فجعل ليلة واحدة من قامها إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وكانت له كعبادة ألف شهر، يعني أكثر من ثلاث وثمانين سنة.
وكما في صحيح مسلم عن أبي أيوب الأنصاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر).
وفي حديث أوس بن أوس، قال صلوات الله وسلامه عليه: (من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة؛ أجر صيامها وقيامها)[صحيح ابن ماجة وغيره].

انقطع عمله إلا من ثلاث
ومن بركة هذه الأمة، وبركة نبيها عليها، أن الله تعالى لم يقطع عنها جميع أعمالها بعد موتها، ولم يحرمها الثواب بانقضاء الأجل وانقطاع العمل فيه، وإنما جعل لها أعمالا تفتح لها بعد الموت أبوابا من الأجور والثواب والحسنات، وهي ما يعرف بالصدقات الجارية..
فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

والمؤمن الموفق هو الذي يسعى حثيثا ليكتنز قبل الموت عملا يجري عليه ثوابه بعد الموت، ويسارع في ذلك قبل أن يموت وينسى كما نسي الكثير من الناس، فلا يكاد أحد يذكرهم بدعوة فضلا أن يتفضل عليهم بصدقة
فاعمل لنفسك قبل موتك ذكرها .. .. فالذكر للإنسان عمر ثاني

وقد تمنى ذلك أقوام ولكن قتلهم التسويف وطول الأمل، ففجأهم الموت قبل ذلك، ولهذا أمرنا الله بالمسارعة في الخير والمسابقة إليه، فقال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة}[آل عمران:133]،، وقال: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة}[الحديد:21]. فالموفق من سارع وسابق ليكون له من أحدها نصيب، أو منها جميعا.

أولها: صدقة جارية
وكلمة الصدقة يرى كثير من أهل العلم أن المقصود بها هنا الوقف، وهو حبس الأصل وتسبيل المنفعة... وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يسارعون إلى ذلك:
ففي صحيح ابن خزيمة: "أن عمر أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمر فيها قال: إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر أن لا تباع أصولها، لا تبتاع ولا توهب، ولا تورث، فتصدق بها على الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيها".

وفي صحيح البخاري عن أنس: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب ماله إليه بيرحاء، وكانت مستقبل المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}[آل عمران:92] وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ، ذلك مال رابح، أو رايح - شك عبد الله - وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وفي بني عمه".
واحتبس خالد بن الوليد رضي الله عنه أدراعه وأعتاده في سبيل الله.. شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، كما في صحيح مسلم.

فمن أراد بنفسه خيرا، وكان ذا سعة فليأخذ من دنياه لآخرته، وليوقف شيئا لله تعالى، وقد ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه صورا للوقف والصدقة في الحديث الذي رواه ابن ماجة بسند صحيح، قال: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته).

علم ينتفع به
فالعلم النافع يتعلمه ثم يعلمه، أو يؤلف شيئا فيه يتعلمه الناس بعد موته، والعلم الشرعي أعظمه ثوابا، وكل علم تنتفع به الأمة وينفع المسلمين والناس بنية طيبة فهو من العلم النافع الذي يبقى أثره وأجره بعد الموت.
وكذا من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة، وكان أجر كل من صلى فيه في ثوابه وصحيفة أعماله، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا.
أو مصحفا ورثه، لمن بعده، أو طبعه على نفقته ووزعه على من لا يجد، خصوصا في البلاد الإفريقية والفقيرة التي يندر فيها المصاحف، فكل من تعلم منه أو قرأ فيه أو حفظ منه وحفظ، كان في ميزان واقفه، وناشره.
أو نهرا أجراه، أو بئرا حفره، يشرب الناس منه، ويسقون زروعهم وما شيتهم.
وإنما هذه أمثلة ضربها النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة الجارية، ليس حصرا فيها، وإنما للدلالة على أمثالها، وكل شيء انتفع به الناس فإنما ثوابه في صحيفة فاعله ما دام الناس ينتفعون به.

وولد صالح يدعو له
والحديث فيه دعوة لتحصيل الولد بالزواج، والسعي في طلب الذرية، وكذلك دعوة لبذل الجهد في تربيتهم تربية صحيحة، فالولد الصالح كسب أبيه، وكل خير علمه إياه والداه، أو دعوه إليه، أو غرسوه فيه وأمروه به فلهم مثل أجر فعله، ثم الولد الصالح يرجى بره لوالديه بعد موتهما، بالدعاء لهما، والصلاة عليهما والاستغفار لهما، والصدقة عنهما، والوقف عليهما.. فكل هذا مما يصل ثوابه لهما..

فيا أيها المسلم الموفق هذا باب للخير واسع، فاجعل لك أثرا يبقى بعد موتك يكتب الله لك به الأجر فما أحوجك لهذا، وقد قال ربنا في كتابه: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم ۚ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}[يس:12].
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة