لا تعارض بين النَقل الصحيح والعَقل الصريح

0 0

العقيدة عند أهل السنة توقيفية لا تثبت إلا بدليل صحيح، لا مجال فيها للرأي والاجتهاد، ومن ثم فإن مصادرها ـ عند أهل السنة ـ مقصورة على ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، لأنه لا أحد أعلم بالله وما يجب له وما ينزه عنه من الله، ولا أحد بعد الله عز وجل أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والعقل السليم مؤيد للعقيدة الصحيحة ويوافق الكتاب والسنة، ويدرك وجود الله وعظمته، وضرورة طاعته وعبادته وتوحيده، واتصافه بصفات العظمة والجلال، كما أنه ـ العقل ـ يدرك ضرورة النبوات وإرسال الرسل، وضرورة البعث والجزاء على الأعمال، وذلك كله على الإجمال لا على التفصيل، إذ لا سبيل إلى إدراك شيء من ذلك على التفصيل إلا عن طريق الوحي ـ الكتاب والسنة ـ.. فالعقل الصحيح، لا يستقل بمفرده وإنما يعمل على ضوء الكتاب والسنة.. قال الإمام البربهاري في "شرح السنة": "واعلم أنه من قال في دين الله برأيه وقياسه وتأوله من غير حجة من السنة والجماعة، فقد قال على الله ما لا يعلم".

النقل الصحيح:
النقل الصحيح يشمل: القرآن الكريم، والسنة النبوية.. والقرآن الكريم كلام الله، وهو محفوظ بحفظ الله عز وجل له، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال الله تعالى: {وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}(فصلت:42:41). قال ابن كثير: "{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} أي: ليس للبطلان إليه سبيل، لأنه منزل من رب العالمين، ولهذا قال: {تنزيل من حكيم حميد} أي: حكيم في أقواله وأفعاله". وقد تكفل وتعهد الله عز وجل بحفظه من أي تحريف أو تبديل، أو زيادة أو نقصان إلى يوم القيامة، وهو الأصل في التلقي واستنباط وتقرير الأحكام الشرعية عامة، ومسائل الاعتقاد خاصة، فما وافقه كان حقا، وما خالفه كان باطلا، قال الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(الحجر:9)، قال الطبري: "{إنا نحن نزلنا الذكر} وهو القرآن {وإنا له لحافظون} قال: وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه". وقال ابن كثير: "قرر تعالى أنه هو الذي أنزل الذكر، وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل".
والنقل الصحيح كما يشمل القرآن الكريم فإنه يشمل كذلك الأحاديث النبوية الصحيحة، فكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته وأحاديثه يحتج به مطلقا بشرط ثبوته عنه وصحته، لا فرق في ذلك بين العقائد والعبادات والأحكام.. وأهل السنة لا يستدلون بالقرآن الكريم دون السنة النبوية، بل بالقرآن والسنة، قال الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}(النجم:4:3). وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) رواه أبو داود وأحمد. وقيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: (قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة (آداب قضاء الحاجة)! فقال: أجل..) رواه مسلم. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين - وإن دقت - أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام؟!".

العقيدة والعقل:
العقل في اللغة يطلق على المنع والحبس، ووجه تسمية العقل بهذا الاسم: كونه يمنع صاحبه عن التورط في المهالك، ويحبسه عن ذميم القول والفعل، وبه يميز الإنسان بين الصواب والخطأ، والخير والشر، والضار والمفيد.. وما من دين أعلى منزلة العقل وفتح له الآفاق مثل الإسلام، قال الله تعالى: {وما يذكر إلا أولو الألباب}(البقرة:269). قال ابن عباس رضي الله عنه: "ذوو العقول من الناس". ومما كرم الله تعالى به العقل أن جعله من مناط (علل وأسباب) التكاليف الشرعية الإلهية، بحيث يسقط التكليف بزواله كما في حال النوم، أو الجنون، أو الصبا وعدم البلوغ.. عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق) رواه أبو داود.
قال ابن عقيل موضحا معنى التكليف الشرعي: "هو المطالبة بالفعل أو الاجتناب له، وذلك لازم في الفرائض العامة، نحو التوحيد، والنبوة، والصلاة، وما جرى مجرى ذلك، لكل عاقل بالغ". وقال الآمدي: "اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلا، فاهما للتكليف، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال". فليس ثمة دين يكرم العقل الإنساني ويعلي من شأنه كالإسلام..
حدود العقل:
لما كانت عقول البشر متفاوتة ويعتريها ما يعتري البشر من ضعف ونقص كما قال وهب بن منبه: "كما تتفاضل الشجر بالأثمار، كذلك تتفاضل الناس بالعقل"، فقد جعل الإسلام للعقل حدودا، فهو مهما بلغ من الفهم والقدرة يظل عاجزا في ميادين كثيرة، لأنه ـ أي العقل ـ خلق لأشياء معينة ومحددة إن خرج عنها، جعل صاحبه يتيه في الظلمات، ويغرق في الشبهات، ويقع في الالتباس والتخبط.. والكثير من مسائل الاعتقاد لا تدرك العقول حقيقتها وكيفيتها، وذلك كصفات الله تعالى وأفعاله، وحقائق ما ورد من أمور اليوم الآخر من الغيبيات، والعقل مطالب بالتسليم للنص الشرعي الصحيح ولو لم يدرك الحكمة التي فيه.. قال أبو القاسم الأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة": "ومن تفكر في الله وفي صفاته ضل، ومن تفكر في خلق الله وآياته ازداد إيمانا". وقال الشاطبي في "الاعتصام": "إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون".
وقال ابن تيمية: "العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك". وقال ابن القيم: "وأنه (الإسلام بعقيدته وشريعته) لم يجئ بما يخالف العقل والفطرة، وإن ‏جاء بما يعجز العقول عن أحواله والاستقلال به، فالشرائع جاءت ‏بمحارات العقول لا محالاتها، وفرق بين ما لا تدرك العقول حسنه وبين ما ‏تشهد بقبحه، فالأول مما يأتي به الرسل دون الثاني". وقال أبو المظفر السمعاني في "الانتصار لأهل الحديث": "اعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول وجعلوا الاتباع والمأثور تبعا للمعقول، وأما أهل السنة قالوا: الأصل في الدين الاتباع والعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول وجب أن لا يجوز للمؤمنين أن يقبلوا أشياء حتى يعقلوا.. وإنما علينا أن نقبل ما عقلناه إيمانا وتصديقا، وما لم نعقله قبلناه تسليما واستسلاما، وهذا معنى قول القائل من أهل السنة: إن الإسلام قنطرة لا تعبر إلا بالتسليم". وقال ابن الوزير: "العقل مصدر من مصادر المعرفة الدينية، إلا أنه ليس مصدرا مستقلا، بل يحتاج إلى تنبيه الشرع، وإرشاده إلى الأدلة، لأن الاعتماد على محض العقل، سبيل للتفرق والتنازع"..

لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح:
العقل الصريح السليم لا يخالف النقل الصحيح، فالأول خلق الله تعالى والثاني أمره، ولا يتعارضان أبدا، لأن مصدرهما واحد وهو الله عز وجل، قال الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر}(الأعراف:54). قال السعدي: "أي: له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها، أعيانها وأوصافها وأفعالها والأمر المتضمن للشرائع والنبوات". ولهذا ضل من ضل حينما أعملوا عقولهم لدرجة إبطال النصوص الصحيحة أو تأويلها بما لا تحتمله لتعارضها مع عقولهم وفهمهم.. قال الإمام الشافعي: "كل شيء خالف أمـر رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقط، ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد معه أمر ولا نهي غير ما أمر به". وقال الشيخ ابن عثيمين في جواب من سأل: عمن رد أحاديث في الصحيحين بزعم أنها مخالفة لظاهر القرآن أو مخالفة للعقل؟ فقال: "نحن نعلم أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبدا أن يخالف العقل، بل لا بد من أحد أمرين: إما عدم صحة النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما فساد العقل، أما مع صحة النقل وسلامة العقل فلا يمكن التعارض أبدا"..
وكل ما زعم فيه التعارض بين النقل والعقل في باب العقائد أو في غيرها، فإنه عائد إلى أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن النقل غير صحيح، وهذا يتصور في الحديث النبوي دون القرآن الكريم، وإما أن العقل غيـر صريح. أما ما عدا ذلك فلا يمكن تصور تعارض حقيقي بين النقل والعقل، لأن العقل الصريح لا يمكن إلا أن يشهد بصحة النقل، والنقل الصحيح لا يتعارض مع ما تقرر في العقل الصريح السليم.. قال ابن تيمية: "فيأخذ المسلمون جميع دينهم من الاعتقادات والعبادات وغير ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. وليس ذلك مخالفا للعقل الصريح، فإن ما خالف العقل الصريح فهو باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظا قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلا، فالآفة منهم، لا من الكتاب والسنة". وقال الأصبهاني: "وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه، وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم عليه، وإن وجدوه مخالفا لهم تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم".
وإن تعارض النقل الصحيح والعقل في الظاهر، قدم النقل على العقل، لأن النقل معصوم وهو علم الخالق الكامل، والعقل غير معصوم وهو علم المخلوق القاصر، وهذا التعارض يكون بحسب الظاهر لا في حقيقة الأمر، فإنه لا يمكن أبدا حصول تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، وإذا وجد تعارض فإما أن يكون النقل غير صحيح أو العقل غير صريح. قال ابن تيمية: "ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كله حق يصدق بعضه بعضا، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة، والقصود الصحيحة، لا يخالف العقل الصريح، ولا القصد الصحيح، ولا الفطرة المستقيمة، ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما يظن تعارضها: من صدق بباطل من النقول، أو فهم منه ما لم يدل عليه، أو اعتقد شيئا ظنه من العقليات وهو من الجهليات".

العقيدة الإسلامية تعلي من شأن العقل ومكانته، وتجعل العلاقة بينه وبين دينه علاقة وفاق واتفاق، فلا يمكن أن يتعارض صريح المعقول مع صحيح المنقول، فدور العقل التفكر في النصوص وتدبر الوحي المعصوم، لا التحكم في النصوص ولا تحكيم العقل فيها. قال ابن تيمية: "فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وما أمرت به من تفاصيل الشرائع، لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفاصيل أسماء الله وصفاته، لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا يعلمون بعقولهم جمل ذلك". وقال: "فبمحمد صلى الله عليه وسلم تبين الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، والنجاة من الوبال، والغي من الرشاد، والزيغ من السداد، وأهل الجنة من أهل النار... فحق على كل أحد بذل جهده واستطاعته في معرفة ما جاء به وطاعته، إذ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم. والطريق إلى ذلك الرواية والنقل، إذ لا يكفي من ذلك مجرد العقل. بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدامه (أمامه)، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة".. وقد كتب ابن تيمية كتابه "درء تعارض العقل والنقل" أو "بيان موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول" وذكر فيه ـ كغيره من علماء أهل السنة ـ أنه لا يمكن أن يتعارض صحيح النقل (الأحاديث النبوية) مع صريح العقل (العقل السليم من الانحراف والشبه)، وإذا وجد ما يوهم التعارض بين النقل الصحيح في أمر غيبي أو غيره مع العقل، وجب تقديم النقل على العقل، لأن النقل ثابت، والعقل متغير، ولأن النقل معصوم، والعقل ليس كذلك.. ثم إن هذا التعارض يكون بحسب الظاهر لا في حقيقة الأمر، فإنه لا يمكن حصول تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح، وإذا وجد تعارض فإما أن يكون النقل غير صحيح أو العقل غير صريح. وقال ـ ابن تيمية ـ: "الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول.. ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كله حق يصدق بعضه بعضا، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة".. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة