- اسم الكاتب:اسلام ويب
- التصنيف:مختلف الحديث
ظواهر النصوص التي وردت بترتيب المغفرة على بعض الأعمال جاءت مصرحة بمغفرة الذنوب، فإذا صام المسلم يوم عرفة غفرت له ذنوب سنتين، وإذا صام عاشوراء غفرت له ذنوب سنة كاملة، وإذا صام رمضان أو قامه أو قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وهكذا تأتي أعمال كثيرة من شأنها أنها تكفر الذنوب كالصلوات الخمس، والجمعة، والعمرة، وأذكار الصلوات، إضافة إلى الابتلاءات الماحية التي يصاب بها المسلم في نفسه أو أهله أو ماله، وغيرها من الأعمال التي وردت النصوص بترتيب المغفرة عليها.
ولا شك أن هذا من فضل الله على المسلم، حيث جعل الله له هذه الأسباب الماحية للذنوب، التي تخفف أثقال المذنبين من أهل القبلة، ولكن المغفرة في هذه الأحاديث هل هي على إطلاقها؟ وكيف تتوارد المغفرة على محل واحد بحيث لو غفرت الذنوب بعمل من تلك الأعمال فأي ذنب ستغفره الأعمال اللاحقة؟
تكلم الشراح في أن المقصود بها تكفير الصغائر دون الكبائر، وأن المكفرات إذا أتت على الذنوب فما يأتي بعد ذلك يكون رافعا للدرجات، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية يقدم رؤية عميقة لهذه الأحاديث، ويحل هذا الإشكال بكلام يجمع النصوص بفقه متكامل ونظر مستنير.
تكلم الشراح في أن المقصود بها تكفير الصغائر دون الكبائر، وأن المكفرات إذا أتت على الذنوب فما يأتي بعد ذلك يكون رافعا للدرجات، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية يقدم رؤية عميقة لهذه الأحاديث، ويحل هذا الإشكال بكلام يجمع النصوص بفقه متكامل ونظر مستنير.
وهو أن الأعمال لا تؤخذ بظاهرها وصورتها الظاهرة فقط، وإنما بصورتها ومضمونها وهو ما يقوم بنفس العامل من الإخلاص والمحبة والخضوع، كما قال الله تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [سورة الحج: 37].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
فقد يكمل الإيمان والإخلاص في قلب العبد فتكون تلك الأعمال مكفرة للصغائر والكبائر، وقد لا تكفر صغيرة ولا كبيرة، وقد تكفر بعضا من الصغائر فقط، ومرد ذلك إلى حال القلب من الإخلاص وعدمه، وغيرها من المعاني القلبية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن بعض تلك الأعمال قد تكفر بعض الذنوب، والأعمال الأخرى تكفر البعض الآخر، ولا يدري المسلم ماذا قبل من عمله وماذا رد منها، قال ابن تيمية في منهاج السنة: فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال، وأكثر الناس يقصرون في الحسنات، حتى في نفس صلاتهم، فالسعيد منهم من يكتب له نصفها، وهم يفعلون السيئات كثيرا؛ فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء، وبما يقبل من الجمعة شيء، وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر، وكذلك سائر الأعمال، وليس كل حسنة تمحو كل سيئة، بل المحو يكون للصغائر تارة، ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة.
والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله له به كبائر، كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر. فيقال: هل تنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: لا ظلم عليك. فتخرج له بطاقة قدر الكف، فيها شهادة أن لا إله إلا الله، فيقول: أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فتوضع هذه البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات.
فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق، كما قالها هذا الشخص. وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله. انتهى كلامه.
ثم أورد مجموعة من الأحاديث التي اشتملت على أعمال يسيرة من أصحابها، ونالوا بها مغفرة ذنوبهم، بسبب ما قام في قلوبهم في تلك الأعمال من الإيمان والإخلاص واليقين، والرغبة، وإلا فليس كل من عمل بهذه الأعمال حصل على نفس الجزاء.
مثل ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه فيها العطش، فوجد بئرا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له.
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما رجل يمشي في طريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له، فغفر له.
قال ابن القيم عند الحديث الذي في الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة، حطت عنه خطاياه - أو غفرت ذنوبه - ولو كانت مثل زبد البحر:
"وليس هذا مرتبا على مجرد قول اللسان، نعم من قالها بلسانه، غافلا عن معناها، معرضا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيا مع ذلك ثوابها، حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض". انتهى من مدارج السالكين.
وبالمقابل فإن الذنوب قد يقترن بها من أعمال القلوب ما يضاعفها وينقلها من درجة الصغائر إلى درجة الكبائر، من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها، والمجاهرة بها، وكل ذلك مرده إلى القلب، وقد يفعل الإنسان جرما كبيرا ويكون له من مقامات القلب ما يشفع له عند الله، كندمه، وعظيم خوفه وسابقة محبته لله، وكل ذلك أعمال قلبية، وهذا يجعل العامل أكثر التفاتا إلى أحوال قلبه حال العمل، وأن لا يركن إلى كثرة الأعمال بصورتها وعددها، وإنما يعمق أعماله ويثقل وزنها بالإيمان واليقين والإخلاص والرغبة بما عند الله، فأحوال القلوب عليها مدار الكمال والنقص في الحسنات والسيئات.