- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:شرح أربعين حديثا في العقيدة
توحيد الله عز وجل أعظم المقامات، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لأمته فضل الله عليهم بهذا التوحيد، وما أعد لأهله من الأجر العظيم والثواب الجزيل.. وشهادة التوحيد "لا إله إلا الله" إقرار لله سبحانه باستحقاق العبادة وحده لا شريك له، ونفي الشركاء معه، وهذه الشهادة هي التي تنجي صاحبها من النار ومن عذاب يوم القيامة.. والشرك بالله عز وجل أخطر الأمور، وهو الذنب الأكبر الذي لا يغفر، قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما}(النساء:48)، قال ابن كثير: "{لا يغفر أن يشرك به} أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، {ويغفر ما دون ذلك} أي: من الذنوب {لمن يشاء} أي: من عباده".. وعن جابر رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار) رواه مسلم.
ولما كان الشرك بالله بهذه الخطورة حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه، وسد ذرائعه، وأغلق أبوابه، ونهى عن كل ما يؤدي إليه من قول أو فعل، حماية لمقام وجناب التوحيد، ونصحا للأمة، وشفقة عليها..
ومواقف وأحاديث حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد كثيرة، منها ما رواه الترمذي عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط ، يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}(الأعراف:138)، والذي نفسي بيده، لتركبن سنة من كان قبلكم . وفي رواية لأحمد ـ في المسند ـ عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله إلى حنين، ونحن حديثو عهد بكفر ـ وكانوا أسلموا يوم الفتح ـ قال: فمررنا بشجرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وكان للكفار سدرة يعكفون حولها ويعلقون بها أسلحتهم، يدعونها ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي قال: الله أكبر وقلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون}(الأعراف:138)، لتركبن سنن من كان قبلكم)..
(حنين): واد يقع شرقي مكة بينه وبينها بضعة عشر ميلا، قاتل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة هوازن. (حدثاء عهد بكفر): قريبو عهد بكفر، جديدون في الإسلام. (سدرة): شجرة النبق. (يعكفون عندها): يقيمون عندها، ويعظمونها، ويتبركون بها. (وينوطون بها أسلحتهم): يعلقونها عليها للبركة. (يقال لها ذات أنواط): هي شجرة عظيمة كان المشركون يأتونها كل سنة يعظمونها، ويعلقون بها أسلحتهم، ويذبحون عندها، وكان مكانها قريبا من مكة، وسميت ذات أنواط لكثرة ما كان يعلق بها من السلاح لأجل التبرك. (السنن): الطرق، والمعنى: سلكتم كما سلك من قبلكم الطرق المذمومة. (والذي نفسي بيده): المراد أن نفسه بيد الله، والمراد بهذا الحلف بالله تعالى. (لتركبن سنة من كان قبلكم): تفعلون مثلما فعل من كان قبلكم من المشركين واليهود والنصارى، وهو خبر معناه الذم والتحذير من هذا الفعل..
قال الهروي في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين) أي: بعد فتح مكة ومعه بعض من دخل في الإسلام حديثا، ولم يتعلم من أدلة الأحكام آية ولا حديثا، (مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم) أي: ويعكفون حولها، (يقال لها ذات أنواط) جمع نوط، وهو مصدر ناطه أي علقه، (فقالوا) أي: بعضهم ممن لم يكمل له مرتبة التوحيد ولم يطلع على حقيقة التفريد (يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) أي: شجرة نحن أيضا نعلق عليها أسلحتنا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله!) تنزيها وتعجبا (هذا) أي: هذا القول منكم (كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}(الأعراف:138).. (والذي نفسي بيده لتركبن) بضم الموحدة أي: لتذهبن أنتم أيها الأمة (سنن من كان قبلكم) بضم السين أي: طرقهم ومناهجهم وسبل أفعالهم، وفي نسخة بفتحها أي: على منوالهم، وطبق حالهم، وشبه قالهم"..
فوائد:
1 ـ النبي صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه بحسب المواقف التي تمر عليهم، فالبيان في وقت الحاجة أوقع في القلوب وأكثر تأثيرا، وهذا من فقهه وحكمته وحسن تربيته صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
2 ـ التبرك المحرم الممنوع: هو أن يعتقد المتبرك أن المتبرك به - وهو المخلوق أيا كان - يهب البركة بنفسه، فيبارك في الأشياء بذاته، وهو شرك لأن الله تعالى وحده موجد البركة وواهبها، وبيده الخير كله كما روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه في استفتاح الصلاة: (والخير كله في يديك). وقد دل حديث أبي واقد الليثي برواياته الصحيحة المتعددة على أن اتخاذ الأشجار للتبرك والعكوف عندها شرك، ويدخل فيه كل ما يتبرك به من شجر، أو حجر، أو قبر، أو غير ذلك..
3 ـ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف من غزوة حنين ـ يعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يقصدوا بطلبهم أن يفعلوا شركا بعد أن أنعم الله عز وجل عليهم بنعمة التوحيد، بل ظنوا ذلك أمرا محبوبا أرادوا التقرب به، ولكنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مع ذلك استعظم طلبهم، وشبهه بطلب بني إسرائيل من موسى عليه الصلاة والسلام، خوفا عليهم من الشرك، وحماية لجناب العقيدة، وسدا لكل أبواب الشرك وذرائعه.. وأخبرهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن هذه الأمة ستتبع طريقة اليهود والنصارى، وتسلك مناهجهم، وتفعل أفعالهم، وهو خبر معناه الذم والتحذير من هذا الفعل.. قال الشوكاني في "إخلاص كلمة التوحيد": "ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريون من أهل القبور، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن ذلك بمنزلة الشرك الصريح، وأنه بمنزلة طلب آلهة غير الله تعالى".
4 ـ استحباب إظهار ما يدفع الغيبة والريبة، حيث قال أبو واقد الليثي: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر) يعني: أن إسلامهم كان جديدا متأخرا، وهو يريد بذلك بيان العذر مما وقع منهم، أنهم كانوا جهالا، لم يتفقهوا كما كان الصحابة الذين مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقهاء، عرفوا العقيدة ودرسوها، لكن هؤلاء أسلموا حديثا وقريبا، ولم يتمكنوا من التفقه في العقيدة.
5 ـ قد يستحسن الإنسان ـ بغير علم ولا دليل شرعي ـ شيئا يظن أنه يقربه إلى الله تعالى، وهو يبعده عنه سبحانه، ومن ثم فالمسلم لا يعمل بما يستحسنه أو يستحسنه غيره، بدون أنه يرجع إلى الكتاب والأحاديث النبوية الصحيحة..
6 ـ (الله أكبر) النبي صلى الله عليه وسلم غضب وتعجب لما قال بعض الصحابة: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)، وكبر الله سبحانه وتعالى تنزيها لله عز وجل عن هذا العمل. وقد ثبت في السنة النبوية ما يدل على مشروعية التسبيح والتكبير عند استحسان شيء أو التعجب منه. قال ابن بطال: "التكبير والتسبيح معناهما تعظيم الله وتنزيهه من السوء، واستعماله عند التعجب واستعظام الأمور حسن، وفيه تمرين اللسان على ذكر الله، وذلك من أفضل الأعمال".
7 ـ جواز الحلف على الفتيا، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده).
8 ـ وجوب سد الأبواب والطرق التي توصل إلى الشرك بالله عز وجل. قال ابن القيم: "فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى، مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه، والدعاء عنده، فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون".
9 ـ جهل المسلم بالحكم الشرعي في الأمر الكفري الذي وقع فيه مما يدفع عنه الكفر، فالجاهل يعذر بجهله إذا رجع بعد العلم. ويستدل العلماء على ذلك لذلك بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه به أحدا، قال: ففعلوا ذلك به، فقال (الله عز وجل) للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك). وكذلك حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، إذ لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بكفر أو شرك، لعدم توفر شروط التكفير، فقد كانوا حديثي عهد بكفر، ويجهلون المحظور في قولهم الذي قالوه..
10 ـ (إنها السنن) أي: الطرق المسلوكة، أي: السبب الذي أوقعكم في هذا هو التشبه بما عليه الناس، فالتشبه بالكفار في عباداتهم وتقاليدهم الخاصة بهم، آفة خطيرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أبو داود. وحديث أبي واقد الليثي وقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم).. أي: لسوف تفعلون يا أمة الإسلام مثلما فعل من كان قبلكم من المشركين واليهود والنصارى، ولسوف تسلكون سبيلهم، وتنهجون منهجهم، وتسيرون على منوالهم، وهذا إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم لمن اقتدى بهم أو فعل فعلهم أو تشبه بهم، فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم البيان لهم ويسكت على قولهم، بل بين لهم وغلظ هذا الأمر، سدا للذريعة لئلا يتساهل بأمثال هذه العبارة، وضرب لهم المثل قائلا: (هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}(الأعراف: 138)، أي: طلبكم هذا كطلب بني إسرائيل من نبي الله موسى عندما طلبوا منه أن يجعل لهم أصناما كما للمشركين أصنام.. ولم يحكم عليهم بالكفر لعدم توفر شروط التكفير، فقد كانوا حديثي عهد بكفر.. وهذه الأحاديث وما شابهها من أحاديث نبوية صحيحة، فيها التحذير الشديد من التشبه بالمشركين والكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، وذلك بأن يفعل المسلم شيئا من خصائصهم في أفعالهم، وعاداتهم، وأعيادهم، وتقاليدهم، وطقوسهم..
11 ـ هذا الحديث فيه علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، حيث وقع في بعض أهل هذه الأمة الشرك، واتباع من كان قبلنا من المشركين واليهود والنصارى في الكثير من خصائصهم في عاداتهم وحياتهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم..
مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة بعد بعثته ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى التوحيد، وترسيخ العقيدة في قلوبهم، فبدون التوحيد وصحة العقيدة وسلامتها تصبح الأعمال هباء لا وزن لها، قال الله تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}(الزمر66:65). قال السعدي: "الشرك بالله محبط للأعمال، مفسد للأحوال، ولهذا قال: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك} من جميع الأنبياء. {لئن أشركت ليحبطن عملك} هذا مفرد مضاف، يعم كل عمل، ففي نبوة جميع الأنبياء، أن الشرك محبط لجميع الأعمال، كما قال تعالى في سورة الأنعام لما عدد كثيرا من أنبيائه ورسله قال عنهم: {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}(الأنعام:88).. {ولتكونن من الخاسرين} دينك وآخرتك، فبالشرك تحبط الأعمال، ويستحق العقاب والنكال"..
والنبي صلى الله عليه وسلم حماية للتوحيد حذر أصحابه وأمته من بعدهم من الشرك ـ صغيره وكبيره ـ تحذيرا شديدا، ونهاهم عن كل ما يوصل إليه، ويؤدي للوقوع فيه، من وسائل وأسباب قولية أو فعلية، ولم يترك بابا من الأبواب التي توصل إليه إلا أغلقه.. والمواقف والأحاديث النبوية الدالة على حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد كثيرة، ومنها حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}(الأعراف:138)، والذي نفسي بيده، لتركبن سنة من كان قبلكم)..