- اسم الكاتب:اسلام ويب
- التصنيف:معالجات نبوية
الإسلام يحث على التفكير والإبداع في مجالات الحياة كلها، ويثمن النتاج العقلي النافع، ولكن الفكر إذا كان في المجالات الدينية فلا بد من مراعاة حدود العقل مع الثوابت والمحكمات الشرعية، وإلا كان مظنة الانحراف وتسلط الأهواء والنزعات الشخصية، ومن هنا جاء دور العلماء في تأمين حركة الفكر وتسديدها، فالعلماء أمان الأرض وهداة الخلق إلى رب العالمين، مكلفون بمقتضى ما منحوا من العلم بحماية الدين من التحريف والتبديل، وبمقتضى كونهم ورثة الأنبياء، يقومون بواجب النصيحة للأمة، فيسددون ما انحرف من مسارها، ويجددون ما اندرس من أمر دينها، فكل ظاهرة انحراف أو غلو في الدين هم معنيون بالتصدي لها بالحجة والبيان، سواء كان انحرافا عن العقيدة أو عن الأخلاق أو عن الأحكام والتشريعات، فهم شركاء في إرساء الأمن والاستقرار في المجتمعات على أسس الإيمان والعمل الصالح.
وإذا تأملنا الهدي النبوي في علاج الانحراف الفكري نجد أنه يتسم بالمعالجة المثمرة المبكرة، من خلال القضاء على أسبابه ودوافعه، وقطع الطريق على الفكرة الخاطئة في مهدها، ولذلك شواهد كثيرة، من خلالها يقتدي العلماء والمصلحون:
الأول: في حادثة النقاش في باب القدر بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى زجرهم، وتحذيرهم من مغبة ضرب القرآن بعضه ببعض باستدلالات خاطئة، كما في مسند الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: بهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به، فاعملوا به، والذي نهيتم عنه، فانتهوا.
الثاني: ومن شواهد ذلك عند الخلفاء الراشدين ما أورده الآجري في الشريعة عن سليمان بن يسار: أن رجلا من بني تميم يقال له: صبيغ بن عسل، قدم المدينة، وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه جلس، فقال له عمر ابن الخطاب: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله صبيغ فقال عمر: وأنا عبدالله عمر، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي قال الآجري: وإنما استحق الضرب، والتنكيل به لما تأدى إلى عمر ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه فعلم أنه مفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه.
لما سمعت القول قولا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
ملامح من دور العلماء في التصدي للانحرافات الفكرية:
سار العلماء على خطى الصحابة في حمل مسؤولية التصحيح والتقويم للانحرافات الفكرية، حيث يقومون هذه المهمة العظيمة، من خلال الوقاية من أسباب الغلو والانحراف الفكري قبل وقوعها، ومعالجة ما وقع من آثارها بالكلمة النافعة، والبيان الواضح، ومن خلال محاربة الجهل، والتعصب، والرد على التأويلات الفاسدة لمحكمات الشرع، ومن خلال الجهود التجديدية المستمرة التي تعيد صورة الإسلام كما كانت عليه في عهد الرسالة، ومن خلال توحيد مصادر التلقي، وضبط منهج الاستدلال.
ومن أهم ما يميز مناهج العلماء في محاربة الغلو هو بيان الحق وإيضاحه، فيبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا سواه، مما يجعل بيانهم مقبولا لدى عامة الأمة، فيمنعون بذلك أسباب الغلو، بخلاف ما يفعله بعض من ينتسبون للعلم من كتمان الحق، وعدم الوقوف مع القضايا العادلة للمسلمين، مما يفتح أبواب الاعتراض والسخط، وانعدام الثقة بالعلماء، فتبدأ بعد ذلك الأفكار المتطرفة والتصورات المغلوطة، وربما التعجل والغلو في التصرفات المارقة، ولا مبرر لهم في ذلك الغلو، بل الأمة مأمورة بالرجوع إلى أهل العلم المعروفين بالحق والعدل، ووجود علماء السوء الذين يبررون الظلم والفجور لا يجعل لأحد الحق في مصادرة رأي العلماء وأهل الرأي في الأمة.
إن إفساح المجال للعلماء الراسخين في العلم لتقديم رسالتهم لعموم المجتمع، وتبني مشاريعهم العلمية، والتربوية، يحصن المجتمع من موارد الغلو، ويبعده عن أن يقع تحت تأثير الخطاب المتطرف، لأن ترسيخ المفاهيم الإسلامية بصورتها الصحيحة وفق مراد الله ورسوله هو الأمان من كل انحراف في التصورات والمفاهيم، وكلما انتشر الجهل أو التجهيل تبع ذلك مالا يحصى من الشرور، وصار الفرد عرضة للاستقطاب من دعاة الشر سواء في مجال التطرف أو في مجال الانحلال والشهوات، وكل ذلك من مهددات السلم والاستقرار في المجتمع المسلم.
وقد كان العلماء الربانيون ولا يزالون يسخرون أوقاتهم وجهودهم في سبيل نشر العلم وتعليمه للناس تأليفا وتدريسا ومناظرة وتربية وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر؛ طلبا لرضوان الله، ولما يعلمون ما في ذلك من الأثر العظيم في تجديد معالم الإسلام في نفوس المسلمين، ومن خلال ذلك تستبين لهم السبل المتفرقة والأهواء والانحرافات المتنوعة، فمخادعة المسلم المتسلح بالعلم النافع أمر في غاية الصعوبة، بخلاف الغافل الجاهل بدينه فقد يلبس عليه في فهم بعض النصوص، ثم يدخل بعد ذلك في غياهب الجهل المركب المنتج لكل أفكار التطرف والغلو.
إن العلماء الربانيين بذلك يئدون الغلو قبل انتشاره، من خلال تشكيل العقل المسلم بصورة سليمة رافضة للغلو، فالبناء العلمي والتربوي الصحيح يحمي المسلم ابتداء من تقبل فكرة الغلو، بحيث يتصور المسلم دينه بشكل صحيح من خلال معرفته بطبيعته وتعاليمه ومقاصده وغاياته، وهذا الدور يقوم به العلماء الشرعيون بكل إخلاص واقتدار، بينما تنصب كثير من جهود المؤسسات الأخرى على معالجة نتائج الغلو والتطرف كالعنف والخلاف والعصبيات، وفرق بين المنهجين.
لقد وقف العلماء عبر التاريخ الإسلامي للتصدي للعقائد المنحرفة فحاربوها بكل الوسائل والأدوات العلمية، بدأ بالخوارج والقدرية ومقالات الباطنية، وشطحات الرافضة، وربما كلفهم ذلك قطع أرزاقهم، أو سجنهم، وقد يصل الأمر إلى قتلهم والتخلص منهم، لكن ذلك فرضهم الذي افترضه الله عليهم، ولكن الله جعل في مواقفهم الخير الكثير، حيث إنهم بصروا المسلمين بشناعة الغلو وبطلان مقالات أربابه، فلم تجد تلك الانحرافات الفكرية بيئة خصبة تستقر بها، بل تلاشت كثير من تلك الأفكار الباطلة، وبقي الإسلام عزيزا نقيا بصدق هؤلاء العلماء ونصحهم وبيانهم، وهكذا في كل عصر ومصر كلما ظهر الانحراف بأي صورة كانت انبرى له المحتسبون من أهل العلم بالبيان والإنكار، حتى تقوم الحجة على أهله، ويتبين لسائر المسلمين وجه الحق في ذلك.