- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
من الله عز وجل على البشرية ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان الرحمة المهداة للعالمين، يحدو بالناس نحو طريق الفلاح، لا يأخذهم بالشدة ولا بالعنف، بل يرحمهم ويترفق بهم، فمن أخلاقه وسماته التي اتصف وعرف بها الرفق، قال الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}(آل عمران:159). قال السعدي: "أي: برحمة الله لك ولأصحابك، من الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك".. والرفق هو لين الجانب واللطف، وهو ضد العنف والشدة.. وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفق وتمثل به في سائر أحواله وشؤون حياته، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه) رواه البخاري.
وقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم الرفق في النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه واضحا جليا.. عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيما رفيقا) رواه البخاري. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا) رواه مسلم. قال العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": "قوله: (رحيما) بمعنى: ذا رحمة وشفقة ورقة قلب. قوله: (رقيقا) بقافين ومعناه: كان رقيق القلب، وفي رواية: (رفيقا) بالفاء أولا ثم بالقاف، من: الرفق". وقال القسطلاني: "وكان عليه الصلاة والسلام (رحيما) بالمؤمنين (رفيقا) بهم". وفي "منار القاري": "(وكان رحيما رفيقا) أي لين الجانب، لطيف المعاملة"..
وكان صلوات الله وسلامه عليه يأمر بالرفق والرحمة والتيسير، وينهى عن الشدة والعنف والتعسير، والنصوص النبوية عديدة ومتنوعة في التأكيد على الرفق والأمر به والحث عليه، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه) رواه مسلم، (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه (أكمله وزينه)، ولا ينزع من شيء إلا شانه (عابه وجعله قبيحا)) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) رواه مسلم.
والرفق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في تعامل الإنسان مع أهله وأولاده، وأقاربه وأصحابه، ومع الصغار والكبار، ومع من يشاركه في مصلحة أو جوار، ومع الجاهل والمخطيء، ومع أعدائه وخصومه، بل تجد رفق النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في تعامل الإنسان مع نفسه.. والسيرة النبوية مليئة بالمواقف والأحاديث في الأمر برفق الإنسان بنفسه وعدم التشديد عليها، ومن ذلك:
1 ـ عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه (يمشي بينهما معتمدا عليهما لضعفه)، قال: ما بال هذا؟! قالوا: نذر أن يمشي، قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب) رواه البخاري. قال القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم": "قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني) أي: لم يكلفه بذلك، ولم يحوجه إليه لأنه غير مستطيع". وفي "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري": "(رأى شيخا يهادى بين ابنيه) أي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا كبيرا طاعنا في السن قد وهن عظمه وضعفت قواه، وأصبح لا يستطيع السير إلا مستعينا بغيره، فهو يمشي معتمدا على ولديه، قال: (ما بال هذا؟) أي ما شأنه لا يتمالك نفسه ويكاد يسقط على الأرض من شدة الإعياء والتعب؟! (قالوا: نذر أن يمشي) أي أن يحج ماشيا، (قال: إن الله عن تعذيب هذا) الرجل (نفسه) وتكليفها ما تعجز عنه ولا تقدر عليه (لغني) أي إن الله تعالى غني عن الوفاء بهذا النذر الذي يؤدي بالإنسان إلى تعذيب نفسه وتكليفها ما لا تقدر عليه، فهو القائل عز وجل: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}(البقرة:185)، (وأمره أن يركب) لعجزه".
2 ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه قالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، قال: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه) رواه أبو داود. قال الخطابي: "قد تضمن نذره نوعين: الطاعة والمعصية، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بما كان منها من طاعة وهو الصوم، وأن يترك ما ليس بطاعة من القيام في الشمس، وترك الكلام، وترك الاستظلال بالظل، وذلك أن هذه الأمور مشاق تتعب البدن وتؤذيه، وليس في شيء منها قربة إلى الله تعالى".
3 ـ عن عقبه بن عامر رضي الله عنه قال: (نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته، فقال: لتمش ولتركب) رواه البخاري. قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم": "(لتمش ولتركب) ظاهر مع ما جاء في الحديث الآخر: (إن الله غنى عن تعذيب هذا نفسه) وأمره أن يركب: أنه لا يلزم ما فيه تعذيب للنفس، لكن كل ما ذهب فيه المشقة على نفسه فلم يلزمه، إذ ليس فيه قربة".
4 ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين (عمودين)، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب (زينب بنت جحش زوج النبي)، فإذا فترت (كسلت وضعفت عن الصلاة) تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر (تعب أو أصابه الملل) فليقعد) رواه البخاري.
قال الكرماني: "(باب ما يكره من التشديد) وإنما يكره مخافة الفتور والإملال، ولئلا ينقطع المرء عنها، فيكون كأنه رجع فيما بذله من نفسه وتطوع به.. قوله: (فترت) أي عن القيام في الصلاة". وقال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "في هذا الحديث من الفقه ألا يجوز للعبد أن يعرض نفسه لأن يضجر من عبادة الله تعالى.. وفيه: أن من فتر عن العبادة قعد ولم يكابد نفسه". وقال ابن بطال: "إنما يكره التشديد في العبادة خشية الفتور وخوف الملل، ألا ترى قوله: (خير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل)، وقد قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}(البقرة:286)".
5 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد (زار) رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ (أضعفه المرض حتى صار ضعيفا مثل ولد الطير عند خروجه من البيضة)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو بشيء، أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة، فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه - أو لا تستطيعه - أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له فشفاه) رواه مسلم. وفي هذا الحديث دلالة على أنه للعبد أن يترفق بنفسه ولا يطلب لنفسه البلاء..
قال القاضي عياض: "فيه جواز التسبيح عند العجب من الأمر، وفيه كراهة تمنى البلاء وإن كان على الوجه الذي فعله هذا، فإنه قد لا يطيقه فيحمله شدة الضرر على السخط والتندم والتشكي من ربه، وفيه أن الدعاء بما قصه عليه الصلاة والسلام أفضل لعامة الناس وأسلم.. وفيه إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له". وقال النووي: "في هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة، وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وفيه جواز التعجب بقول: سبحان الله، وقد سبقت نظائره، فيه استحباب عيادة المريض والدعاء له، وفيه كراهة تمني البلاء لئلا يتضجر منه ويسخطه وربما شكا. وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا أنها العبادة والعافية، وفي الآخرة الجنة والمغفرة". وقال ابن هبيرة: "وفيه دليل على أنه لا يتعرض الإنسان لربه تبارك وتعالى بإظهار الجلد (الصبر والتحمل) على سوط من سياط عذابه، بل يسأل الله العافية". وقال الهروي: "قوله: (هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟): قيل: شك من الراوي، وقال الطيبي: والظاهر أنه من كلامه - عليه الصلاة والسلام - أي: هل كنت تدعو بشيء من الأدعية التي يسأل فيها مكروه، أو هل سألت الله البلاء الذي أنت فيه؟ ..(سبحان الله!): تنزيه له تعالى عن الظلم وعن العجز، أو تعجب من الداعي في هذا المطلب وهو أقرب. (لا تطيقه): أي في الدنيا (ولا تستطيعه): في العقبى (الآخرة)".
فائدة:
1 ـ المفهوم الصحيح لعبارة "الأجر على قدر المشقة": العبادة لا يقصد بها المشقة لذات المشقة، لكن إذا حصلت المشقة كان الأجر أعظم بلا شك، فقد يكون العمل شاقا، ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره فيزداد الثواب بالمشقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في العمرة: (إن لك من الأجر على قدر نصبك (جهدك وتعبك) ونفقتك) رواه الحاكم. قال النووي: "هذا ظاهر في أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب (التعب) والنفقة، والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع، وكذا النفقة". وقال ابن تيمية: "قد يكون العمل الفاضل مشقا، ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره فيزداد الثواب بالمشقة"..
وأما عدم ترفق المسلم بنفسه وقصده المشقة والتعب لذات المشقة والتعب فهذا ليس فيه زيادة أجر، بل هو منهي عنه شرعا، فالقاعدة المعروفة: "الأجر على قدر المشقة" ليست مطردة (دائمة) في كل شيء.. قال ابن تيمية في "الزهد والورع والعبادة": "قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (هلك المتنطعون).. مثل: حديث: أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم .. فكثيرا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر".. وقال في "مجموع الفتاوى": "ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كل ما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء، لا! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله"..
وقال الشاطبي في "الموافقات": "وليس للمكلف أن يقصد المشقة نظرا إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل".
2 ـ من رحمة الله تعالى بالأمة الإسلامية أن رفع عنها الحرج والمشقة في عبادتها، وأراد لها اليسر دون العسر، وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم شفقة بأمته: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}(البقرة:286). قال السعدي: "فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم"..
ونبينا صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة، وقد قال الله تعالى عنه وعن بعثته ورسالته: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء:107). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! إنما أنا رحمة مهداة) رواه البيهقي. قال الصنعاني: "(إنما أنا رحمة) أي ذو رحمة عبر عنه بها مبالغة، أي رحم الله عباده بإيجادي. (مهداة) بضم الميم أي: أهداني لعباده لأدلهم على النجاة وأجنبهم مسالك الهلاك، فمن قبل رحمة الله وهديته فاز وأفلح، ومن ردها خاب وخسر". ومن مظاهر وصور رحمته ورفقه صلى الله عليه وسلم أنه أمر المسلم بالرفق عامة مع كل من يتعامل معه، بل وأمره بالرفق مع نفسه، وأرشد أمته إلى ما يصلحهم، وما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر..
خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومدار الأمر في فلاح العبد ونجاته في اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم دون تفريط أو مغالاة، أو زيادة أو نقصان، والسنة النبوية أصلها الرحمة والرفق، والتوسط والاعتدال. قال الزهري: "كان من مضى من علمائنا يقول: الاعتصام بالسنة نجاة"، وقال الإمام مالك: "السنة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق"..