حجية السنة

2 3146

للسنة النبوية مكانة عظيمة في التشريع الإسلامي ، فهي الأصل الثاني بعد القرآن الكريم ، والتطبيق العملي لما جاء فيه ، وهي الكاشفة لغوامضه ، المجلية لمعانيه ، الشارحة لألفاظه ومبانيه ، وإذا كان القرآن قد وضع القواعد والأسس العامة للتشريع والأحكام ، فإن السنة قد عنيت بتفصيل هذه القواعد ، وبيان تلك الأسس ، وتفريع الجزئيات على الكليات ، ولذا فإنه لا يمكن للدين أن يكتمل ولا للشريعة أن تتم إلا بأخذ السنة جنبا إلى جنب مع القرآن ، وقد جاءت الآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة آمرة بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والاحتجاج بسنته والعمل بها ، إضافة إلى ما ورد من إجماع الأمة وأقوال الأئمة في إثبات حجيتها ووجوب الأخذ بها.

أدلة الكتاب

دلت عدة آيات من القرآن الكريم على حجية السنة ، ووجوب متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ذلك :

- الآيات التي تصرح بوجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه ، والتحذير من مخالفته وتبديل سنته ، وأن طاعته طاعة لله ، كقوله سبحانه: {يـا أيـها الذين آمـنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} (محمد: 33) ، وقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا} (النساء: 80) ، وقوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (الحشر: 7) .

- الآيات التي رتبت الإيمان على طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والرضا بحكمه ، والتسليم لأمره ونهيه كقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (الأحزاب: 36) ، وقوله سبحانه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (النساء: 65) ، وقوله: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (النور: 51).

- الآيات التي تبين أن السنة في مجملها وحي من الله عز وجل ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يأتي بشيء من عنده فيما يتعلق بالتشريع ، وأن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنته مثل ما حرم الله في كتابه ، كقوله سبحانه: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين} (الحاقة: 44-47) ، وقوله جل وعلا: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة: 29) ، وقوله جل وعلا: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (الأعراف: 157) .

- الآيات الدالة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبين للكتاب وشارح له ، وأنه يعلم أمته الحكمة كما يعلمهم الكتاب ، ومنها قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل: 44) ، وقوله: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (النحل: 64)، وقوله: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (آل عمران: 164) ، وقد ذهب أهل العلم والتحقيق إلى أن المراد بالحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الإمام الشافعي - رحمه الله - : " فذكر الله الكتاب وهو القرآن ، وذكر الحكمة ، فسمعت من أرضى - من أهل العلم بالقرآن - يقول: الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا يشبه ما قال - والله أعلم - لأن القرآن ذكر ، وأتبعته الحكمة ، وذكر الله منه على خلقه : بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال الحكمة هنا إلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنها مقرونة بالكتاب ، وأن الله افترض طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وحتم على الناس اتباع أمره ، فلا يجوز أن يقال لقول : فرض . إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله : لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به ..." اهـ .

أدلة السنة

وأما السنة فقد ورد فيها ما يفوق الحصر ، ويدل دلالة قاطعة على حجية السنة ولزوم العمل بها ، ومن ذلك :

- الأحاديث التي يبين فيها - صلى الله عليه وسلم - بأنه قد أوحي إليه القرآن وغيره ، وأن ما بينه وشرعه من الأحكام فإنما هو بتشريع الله تعالى له ، وأن العمل بالسنة عمل بالقرآن ، وأن طاعته طاعة لله ، ومعصيته معصية لله جل وعلا ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : (يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرم الله) رواه ابن ماجه ، وفي رواية أبي داود : (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) .

وقوله: (إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان فالنجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق) رواه البخاري ، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : (من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله) ، وفي حديث آخر : (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى) .

- الأحاديث التي يأمر فيها عليه الصلاة والسلام بالتمسك بسنته وأخذ الشعائر والمناسك عنه ، واستماع حديثه وحفظه وتبليغه إلى من لم يسمعه ، وينهى عن الكذب عليه ، ويتوعد من فعل ذلك بأشد الوعيد ، كقوله : (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) رواه البيهقي وغيره ، ‌وقوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) رواه أبو داود ، وقوله : (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري ، وقوله : (خذوا عني مناسككم) رواه النسائي ، وقوله: (نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه....) رواه الترمذي وغيره ، وقوله - كما في البخاري - : (إن كذبا علي ليس ككذب على أحد ، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).

عمل الصحابة

وعلى ذلك كان عمل الصحابة رضي الله عنهم من الاحتجاج بسنته - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بهديه ، وامتثال أوامره ، والرجوع إليه في الدقيق والجليل ، فكانوا أحرص الخلق على ملاحظة أقواله وأفعاله وحفظها والعمل بها ، وبلغ من اقتدائهم أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك ، من دون أن يعلموا لذلك أي سبب أو حكمة كما روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتما من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب ، ثم نبذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : (إني لن ألبسه أبدا) فنبذ الناس خواتيمهم " .

وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم ، فلما قضى صلاته قال : ما حملكم على إلقائكم نعالكم ، قالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا) .

إجماع الأمة

ولو تتبعنا آثار السلف ومن بعدهم من الأئمة ، لم نجد أحدا - في قلبه ذرة من الإيمان وشيء من النصيحة والإخلاص - ينكر التمسك بالسنة والاحتجاج بها والعمل بمقتضاها ، بل على العكس من ذلك لا نجدهم إلا متمسكين بها ، مهتدين بهديها ، حريصين على العمل بها ، محذرين من مخالفتها ، وما ذاك إلا لأنها أصل من أصول الإسلام وعليها مدار فهم الكتاب ، وثبوت أغلب الأحكام ، فعلى حجية السنة انعقد إجماعهم ، واتفقت كلمتهم ، وتوطأت أفئدتهم ، قال الإمام الشافعي رحمه الله : " أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس " ، وقال في الأم : " لم أسمع أحدا نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم ، يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسليم لحكمه ، وأن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحد لا يختلف فيه الفرض ، وواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

وقال الإمام ابن حزم عند قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 59) " الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس ، كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل من أتى بعده عليه السلام ولا فرق " اهـ .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى شىء من سنته دقيق ولا جليل . فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله " .

تعذر العمل بالقرآن وحده

ومما يدل على حجية السنة - من حيث النظر - أنه لا يمكن الاستقلال بفهم الشريعة وتفاصيلها وأحكامها من القرآن وحده ، لاشتماله على نصوص مجملة تحتاج إلى بيان ، وأخرى مشكلة تحتاج إلى توضيح وتفسير ، فكان لا بد من بيان آخر لفهم مراد الله ، واستنباط تفاصيل أحكام القرآن ، ولا سبيل إلى ذلك إلا عن طريق السنة ، ولولاها لتعطلت أحكام القرآن ، وبطلت التكاليف .

قال الإمام ابن حزم رحمه الله : " في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات ، وأن المغرب ثلاث ركعات ، وأن الركوع على صفة كذا ، والسجود على صفة كذا ، وصفة القراءة فيها والسلام ، وبيان ما يجتنب في الصوم ، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة ، والغنم والإبل والبقر ، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة ، ومقدار الزكاة المأخوذة ، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة ، وصفة الصلاة بها وبمزدلفة ، ورمي الجمار ، وصفة الإحرام وما يجتنب فيه ، وقطع يد السارق ، وصفة الرضاع المحرم ، وما يحرم من المآكل ، وصفة الذبائح والضحايا ، وأحكام الحدود ، وصفة وقوع الطلاق ، وأحكام البيوع ، وبيان الربا والأقضية والتداعي ، والأيمان والأحباس والعمرى ، والصدقات وسائر أنواع الفقه ؟ وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها ، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة... فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة ، ولو أن امرءا قال : لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة " اهـ .

ولهذا لما قيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير : " لا تحدثونا إلا بالقرآن قال : " والله ما نبغي بالقرآن بدلا ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن ، وكذلك عمران بن حصين رضي الله عنه لما قال له رجل : " إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلا في القرآن " فغضب عمران وقال : " إنك امرؤ أحمق ، أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ؟ ، ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ، ثم قال : أتجد هذا في كتاب الله مفسرا ، إن كتاب الله أبهم هذا ، وإن السنة تفسر ذلك " .

على أن الأحكام المستمدة من السنة مأخوذة في الحقيقة من القرآن ، ومستقاة من أصوله ، وذلك لأن الله أحال عليها في كتابه ، فالأخذ بها في الواقع أخذ بالقرآن ، والترك لها ترك للقرآن ، وهو ما فهمه الصحابة والسلف رضي الله عنهم ، ولهذا لما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "لعن الله الواشمات والموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" بلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال : لها أم يعقوب ، فجاءت إليه وقالت : إنه بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: 7) ؟! قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه " رواه البخاري .

فتبين مما سبق وجوب الاحتجاج بالسنة والعمل بها ، وأنها كالقرآن في وجوب الطاعة والاتباع ، وأن المستغني عنها هو مستغن في الحقيقة عن القرآن ، وأن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله ، وعصيانه عصيان لله تعالى ، وأن العصمة من الانحراف والضلال إنما هو بالتمسك بالقرآن والسنة جميعا.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة