كيف نقف خلف اللغة العربية؟!

0 1

إن المتتبع لكل من كتب عن وقائع أمتنا في العصر الحديث، يدرك أن الأمة العربية لم تعرف صورة لصراع في سبيل التحرر والاستقلال ومقاومة الاستعمار أشبه بالصراع الذي تخوضه اللغة العربية مع أعدائها.

فلقد كانت المعارك العسكرية والوطنية والسياسية التي خاضتها الشعوب العربية في أقطارها المختلفة مقترنة أو متزامنة مع المعركة اللغوية مع الأعداء في تلك الأقطار.

لقد كان الصراع على تحرير اللسان العربي صورة لتحرير الإنسان العربي من سلطان المستعمر الغاصب.

"وما زلنا إلى اليوم نرى ونسمع ما يمس حرمة الاستقلال في بعض الأقطار العربية، ونرى ونسمع في الوقت ذاته ما يخدش سيادة اللغة ويزاحمها فوق أرضها في حياتها التعليمية، والاقتصادية، والسياحية، والاجتماعية". هكذا استهل حديثه العلامة مازن المبارك وهو يؤرخ لمسيرة العربية والتعريب.

ولما كانت العربية لغة أمة ممتدة تتوزع بين أقطار عدة، كان من الجدير أن يدافع عنها من قبل الأمة برمتها، أي أن تتحول اللغة إلى هم أممي مشترك تستشعر خطورته كل الأقطار، لأننا نتحدث عن هويتنا الجامعة، وشرفنا الثقافي، وبعدنا الديني. فالعلاقة بين العربية والدين علاقة وثيقة لا ينفك أحدهما عن الآخر.

مكانة اللغة لدى الأمم:
لعل الحديث عن مكانة اللغة في الارتقاء بالشهود الحضاري لدى الأمم، مما كثر الحديث عنه، ولا يخلو من تكرار، لكننا نجد أنفسنا بحاجة بين حين وآخر إلى تعزيز مكانة العربية كلما اضمحلت ورغب عنها أبناؤها، ولو لم يكن من مكانة اللغة إلا تشكيلها لتاريخ الحضارة الإنسانية، ورسمها لمجرى التاريخ أكثر مما أسهمت به الجيوش والأسلحة الباهظة والحروب الكبرى. فاللغة كانت أداة الرسالات السماوية والمذاهب الدنيوية والمعاملات الإنسانية بكل مستوياتها، إنها العملة الأبدية الأزلية المتداولة بين الناس جميعا.

وقد طربت لتشبيه الكاتب أحمد بهاء الدين (اللغة بالماء) وأثرهما في عملية التخليق، والإحياء، في قوله: "وإذا كانت الآية الكريمة تقول: وجعلنا من الماء كل شيء حي. فاللغة خلقت من الحضارات والفنون والعلوم كل شيء حي". ولعل ما يؤكد هذا المعنى ما ذهب إليه العلواني في كتابه "لسان القرآن" من أن من أسباب تفكك "الدولة العثمانية"، إهمالها "للسان القرآن واللغة العربية". ومن وقف على موسوعة العلامة مختار الغوث (الحرب الباردة على الكينونة العربية)، أدرك أهمية اللغة وخطورة التخلي عنها، والعدول عنها بلغات أخرى.

تباهي الأمم بلغاتها:
ذكر الأستاذ الراحل عبد الصبور شاهين – رحمه الله – أنه زار تركيا، وسألهم: بأي لغة تدرسون الطب والهندسة وباقي العلوم؟

فأجابوه: باللغة التركية!

رد عليهم: ولماذا؟

قالوا: هذه هويتنا الجامعة وشرفنا القومي!

وفي كتابه "تحت راية القرآن"، يبين الرافعي شيئا من هذا التباهي الأممي، فيقول: "ألا يرون كيف تباهي كل أمة في أوروبا بلغتها، وكيف يفخر الفرنسيون بلسانهم حتى إنهم ليجعلونه أول ما يعقدون عليه الخنصر إذا عدوا مفاخرهم ومآثرهم؟ وهل أعجب من أن المجمع العلمي الفرنسي يؤذن في قومه بإبطال كلمة إنجليزية كانت في الألسنة من أثر الحرب الكبرى، ويوجب إسقاطها من اللغة جملة، وهي كلمة نظام الحصر البحري، وكانت مما جاءت مع نكبات فرنسا في الحرب العظمى. فلما ذهبت تلك النكبات، رأى المجمع العلمي أن الكلمة وحدها نكبة على اللغة، كأنها جندي دولة أجنبية في أرض دولة مستقلة بشارته وسلاحه وعلمه يعلن عن قهر أو غلبة أو استعباد! وهل فعلوا ذلك إلا لأن التهاون يدعو بعضه إلى بعض، وأن الغفلة تبعث على ضعف الحفظ والتصون، وأن الاختلاط والاضطراب يأتي من الغفلة، والفساد يجتمع من الاختلاط والاضطراب؟".

وبالعودة إلى النموذج التركي، يتضح لنا أن تركيا تقف خلف لغتها، ببعد قومي حاضر، في حين أن اللغة العربية لا تجد من يقف خلفها، كأن تكون هناك دولة تنظر إليها من منظار قومي، حضاري، إسلامي، وتسعى إلى الارتقاء بها، كما يحدث مع أغلب البلدان التي تعلي من لغتها (الكيان الصهيوني نموذجا). ولعل تعدد الدول العربية كان سببا وراء هذا التراخي، إذ كل دولة ترمي بالحمل على الأخرى!

ومما يذكر في هذا السياق؛ أن "لينين" عندما نجح في انقلابه البلشفي، وجد أن اللغة الروسية متخلفة ولا وزن لها في المعارف والعلوم، وأن التقدم الحقيقي - حينها - كان في أوروبا. فأنشأ ديوانا للترجمة جمع فيه 100 ألف مترجم، ورأس بنفسه ديوان الترجمة، وقاموا بترجمة أغلب علوم الأرض من أجل إحياء اللغة الروسية؛ لتصبح فيما بعد لغة من لغات الحضارة والتقدم والعلم!

ارتباط اللغة بالفكر والسلوك:
ولعل من أهم الإشكالات التي تعاني منها مجتمعاتنا، الدراسة بلسان غير لسانها، وهو أحد مظاهر الانهزام الثقافي الذي بلينا به، ولو تتبعت أغلب بلدان العالم المنفلت من قيد الاستعمار اللغوي، ستجد أنهم يدرسون الطب والتخصصات العلمية بلغاتهم، في دحض واضح لخرافة "عجز اللغات عن حمل العلم"، وفي الوقت ذاته إعلاء من شأن هويتهم، وثقافتهم، وخصوصيتهم التي ينطلقون منها.

وجدير بنا أن ننوه بعمل الخليفة عمر بن الخطاب الذي كان أول من أدرك ارتباط اللغة بالفكر وبالسلوك، فقال: تعلموا العربية، فإنها تثبت العقل، وتزيد المروءة"، وبذلك جعل اللغة متصلة بالفكر، ملازمة له؛ إذ هي الوعاء له، والأداة لتثبيته، وهي التي تمنح المرء مروءته في انتمائه إلى أهله، ونسبته إلى قومه، فإن لم يتعلمها كان شاذا عنهم. ولذلك كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري عامله على أذربيجان، حين أخطأ كاتبه، ولحن في رسالة بعث بها إلى عمر: أن قنع كاتبك سوطا، واعزله عن عمله. فكان ابن الخطاب أول حاكم عربي يسن قانونا لا يسمح باستعمال عامل - أي: موظف - لا يحسن العربية. رحم الله عمر، فقد كان ذا وعي لغوي سليم، وإدراك عميق بأن سيادة اللغة رمز لسيادة الوطن. وقد عبر عن ذلك بالأقوال والأفعال.

أفكار حضارية للإعلاء من شأن اللغة العربية:
في ظني أننا لا نفتقد للأفكار لأنها بتعبير الجاحظ "ملقاة على قارعة الطريق"، ولأن حماة العربية قد كتبوا وكتبوا كثيرا في هذا الشأن، وثوروا العديد من الأفكار العزيزة لخدمة العربية، لكننا بحاجة إلى قرار حضاري يعيد الحياة إلى العربية، ويعيد مكانتها الزاهية بين لغات العالم، ولعل من أهم وأيسر الأفكار:

-        تعزيز تعليم اللغة العربية بتحسين مناهجها في المدارس والجامعات، والربط الوجداني الوثيق بينها وبين المتلقين. -        ترجمة الأبحاث والدراسات العلمية إلى العربية وتشجيع البحث العلمي باللغة العربية، وتعزيز هذا التوجه. -        تشجيع وسائل الإعلام على استخدام اللغة العربية الفصحى في نشرات الأخبار والبرامج الثقافية. -        دعم المبادرات الأدبية والفكرية. -        الاعتزاز بالهوية العربية ولغتها، وتعزيز الروابط بينها وبين التراث الثقافي العربي والإسلامي. -        التعاون الشامل بين الدول العربية في برامج مشتركة لتعزيز تعليم اللغة العربية، مع استشعار أن كل دولة معنية بالوقوف خلف العربية، ونهضتها، والارتقاء بها.

استثمار اللغة في البناء الحضاري:
في بعض دولنا العربية إذا تحدث أحدهم مع عمالة وافدة أعجمية يتحدث بلهجة محرفة، عرجاء، تنزلا، من أجل أن يفهم الرجل الواقف أمامهم، ثم يمضي لحال سبيله، فور انقضاء حاجتهم، دون النظر إلى الأمر من بعد حضاري! والغريب أن العامل يعيش عقدا أو عقدين وهو لا يحسن إلا تلك اللهجة الهجينة العرجاء التي فرضها على المجتمع العربي، فأنزلهم إليه، ولم يصعدوا به إلى تعلم لغة بيضاء تعود عليه بفائدة في مهاجره وعند عودته إلى وطنه!

وفي ظني أن دولنا العربية تستطيع تقديم خدمة عظمى للغة العربية، عبر الوافدين إليها، وفي المقابل تستطيع أيضا أن تستثمر في اللغة العربية، فتفتح بذلك آفاقا ما كانت لها أن تخلق لو مضى الحال على ما هو عليه.

نستطيع - مثلا - أن نشترط في العمالة القادمة إلى بلداننا تعلم (مستويين من اللغة العربية) في معاهد معتمدة للغة العربية في بلدانهم القادمين منها، وبهذا، سنضمن عاملا لديه الحد الأدنى من اللغة الصحيحة، وغالبا ستتحسن (نوعية) القادمين من العمال؛ لأن من له رغبة في تعلم لغة قوم والصبر عليها، فهو يوحي بقدرته على التأقلم والاندماج، والإفادة من اللغة في أبعاد أخرى، أكبر من مجرد إنهاء عمل ومن ثم العودة بتحويشة العمر!

وإذا قدم إلى العمل، بعد تلقيه بعض المستويات في اللغة، يشجع على إتمامها في بعض المعاهد العربية التي تقف وراءها الدولة، وترفع أجورهم بذلك، ولو كان شيئا يسيرا، تحفيزا لهم، ثم يعمم بمنع الحديث مع العمالة الأجنبية بلغة محرفة كما هو حاصل، وإنما بلغة عربية بيضاء كأنه عربي، للارتقاء بهم، وتحسين لغتهم، لا النزول إليهم، وخلق لهجة هجينة، كل همها (إتمام العمل) والسلام.

ختـــــاما:
لا أدري إذا كان هناك ما يسمى بالمجلس الأعلى للغة العربية؟ (تشارك فيه كل الدول العربية)، ويكون له صندوق سيادي، سخي، كل همه الارتقاء باللغة، على كل المستويات، والسعي وراء تطويرها، وتذليلها، وتقديمها لكل العالم بصورة ميسرة مشرقة.

وقد كان في زمن سابق لإحدى الدول العربية جهد مشكور في توطين اللغة العربية في مناهج التعليم، وهي تجربة تحتاج إلى تقييم، ومن ثم البناء عليها، وما تقوم به دولة قطر عبر مشروعها الكبير (معجم الدوحة التاريخي للغة العربية) مما تشكر عليه، وفيه بعد حضاري لا يخفى على أحد.

إني لأرجو أن نستيقظ وقد رأينا دولنا العربية تقف صفا واحدا وراء لغتنا العربية، للنهوض بها، وخدمتها كما يليق بها.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة