- اسم الكاتب:د/ عمار علي حسن – الجزيرة نت
- التصنيف:فلسطين الهوية
يرسخ في أذهان كثير من المثقفين والمحللين السياسيين والخبراء العسكريين العرب أن الجيش الإسرائيلي يدمر المناطق الأثرية في لبنان وغزة؛ بغية الانتقام من أماكن لها تاريخ على يد من لا تاريخ لهم في المنطقة، أو محاولة لمحو الذاكرة الحضارية المحمولة على معالم الأمكنة ووظائفها على يد من عاشوا قرونا طويلة في الشتات، ولا يعرفون ألفة المكان وأهمية الذاكرة البصرية، ولا تستقر في رؤوسهم القيمة الثقافية لما يدكونه بالطائرات والصواريخ دكا من العمران القديم الصامد في وجه عوامل التعرية والإزاحة.
في أيام النكبة عام 1948 دمرت "العصابات الصهيونية"، التي كانت تحمل السلاح قبل تكوين الجيش الإسرائيلي، 418 قرية فلسطينية تدميرا مروعا، بعض مبانيها كانت تعود إلى قرون خلت، وارتكبت مذابح جماعية في حق الفلسطينيين العزل، وواصل الجيش هذا السلوك في كل الحروب والاعتداءات المتكررة على الفلسطينيين وغيرهم.
وفي الحرب الحالية دمرت إسرائيل في لبنان تراث بعلبك الذي يمتد عمره إلى ثلاثة آلاف عام، ويعود لحضارات خلفها الفينيقيون والبيزنطيون والسلاجقة والأيوبيون والفرنجة والمغول والمماليك والعثمانيون. ودمرت إسرائيل، إلى جانب المواقع الأثرية والأبنية السكنية، كنائس وأديرة للطوائف المارونية والأرثوذكسية.
وتم تدمير أحياء كاملة بالضاحية الجنوبية في بيروت يعود تاريخها إلى الفتح العربي، مثل حي الشياح، وحي الليلكي/الغبيري، وحي حارة حريك، ومقبرة باشورة، كما تم تدمير مبان قديمة جدا في مدينة صور، التي يعد جانب منها أشبه بمتحف كبير، علاوة على تراث بمدينة النبطية، يشمل أسواقا، ومنازل أثرية، ومساجد وكنائس. وأتى الطيران الإسرائيلي على البلدة القديمة في غزة، التي تضم أكثر من 146 بيتا قديما ومساجد وكنائس ومدارس تاريخية وميناء غزة القديم.
وفي كل هذا لم تعبأ إسرائيل بما نصت عليه اتفاقية لاهاي التي تم إقرارها عام 1954، بغية حماية الممتلكات الثقافية في وقت الصراعات المسلحة لعام 1954، وجاءت ردا على الدمار الذي سببته الحرب العالمية الثانية لمواقع التراث الإنساني على يد قوات الحلفاء والمحور، وتنص على أن "أي ضرر يلحق بالممتلكات الثقافية، بغض النظر عن الشعب الذي تنتمي إليه، هو ضرر للتراث الثقافي للبشرية جمعاء، لأن كل شعب يساهم في ثقافة العالم".
وفي ظل سيطرة النزعة الدينية المتشددة على السياسة في إسرائيل، بعد صعود اليمين إلى مستوى غير مسبوق، لم يعد الساسة الجدد وحلفاؤهم من المؤسسة الدينية، يعبؤون بقوانين الحروب الحديثة، ولا بكل ما يرد عن حقوق الإنسان، وهو ما أوردته مجلة "مومنت" (Moment) اليهودية الأميركية، على لسان الحاخام "مانيس فريدمان" حول الطريقة المثلى للتعامل مع العرب، حيث قال بكل صراحة: "إنني لا أومن بالأخلاقيات الغربية، بمعنى أن عليك ألا تقتل المدنيين أو الأطفال، وألا تدمر الأماكن المقدسة، وألا تقاتل في المناسبات الدينية، وألا تقصف المقابر، وألا تطلق النار قبل أن يطلقها عليك الآخرون.. إن الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية هي: دمر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم.. ذلك هو الرادع الوحيد والحقيقي للتخلص من ثبات الفلسطينيين ومقاومتهم المستمرة".
هنا يرى عصام سخنيني في كتابه: "الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني" أن هذا المشروع اكتسب هذه النزعة الاستئصالية من مصدرين:
الأول هو الكولونيالية (الاستعمارية) الأوروبية، إذ ولدت الصهيونية - في نظره - على فراش الاستعمار الغربي الذي قام باستئصال سكان محليين أصليين في البلاد المستعمرة، أو حشرهم في معازل بعيدا عن المستوطنين الأوروبيين.
والثاني هو استعارة وقائع ومواقف ومفردات وتعبيرات دينية وتأويلها بإفراط بما يخدم نزعة الإبادة، وفي ركابها يمحو الذاكرة التاريخية للبلدان العربية المعتدى عليها.
هذا المسلك تم تغليفه بالكثير من الحكايات والأساطير والرموز الدينية والمرجعيات التاريخية التي تبرر ما يفعله الجيش الإسرائيلي في زماننا، لا سيما أن بعض الساسة والعسكريين على حد سواء، يرون أن من واجبهم تكرار أحداث التاريخ القديم في تدمير المدن، ومحو الذاكرة البصرية تماما، للأمم التي يتم التغلب عليها، كإحدى أدوات إخضاعها عنوة.
حتى إن الساسة العلمانيين في إسرائيل يأتون بالماضي إلى الحاضر، فيستعيدون وقائع تاريخية ليس مقطوعا بحدوثها فعلا، لتبرر مسلكهم في التدمير، حيث وجدنا أول رئيس وزراء في إسرائيل ديفيد بن غوريون، يقول: "لا بد من وجود استمرارية من يوشع بن نون إلى جيش الدفاع الإسرائيلي".
وعاد بنيامين نتنياهو ليكرر الأمر في أول كلمة له عقب عملية: "طوفان الأقصى" حين استعاد حكاية النبي صموائيل مع العماليق، الذين قتلهم مع دوابهم وكل ما ينبض بالحياة في بلادهم، مدعيا أن الفلسطينيين هم عماليق هذا العصر، وقال: "كما هو مكتوب في التوراة، سألاحق أعدائي، وأقضي عليهم".
وتسرب الإيمان بهذا المسلك إلى قطاع من الشعب الإسرائيلي نفسه، إذ أظهرت دراسة استقصائية شملت نحو ألف طالب وطالبة من المدارس الثانوية في إسرائيل لمعرفة مدى اعتقادهم في صحة وقداسة الأفعال التدميرية القديمة، أن نحو 80% من الطلاب يعتقدون في صحتها، فيما يرى 38% منهم أن الجيش الإسرائيلي ملزم بتكرار الإبادة نفسها في القرى والبلدات العربية التي يغزوها.
وفي هذا أبلغ رد على بعض التفسيرات الإسرائيلية الملتوية التي تزعم أن النزعة العدوانية الإسرائيلية راجعة إلى أنها تقع وسط بحر العداء العربي، متغافلة عن التكوين النفسي والتاريخي والأيديولوجي الذي يحكم جانبا من "العقيدة القتالية" للجيش الإسرائيلي، ويرى في الانتقام التزاما وواجبا لا خيار غيره، وبذا لا مناص من تبرير استعمال القوة المفرطة ضد من تصنفهم إسرائيل أعداء لها.
لقد استخدم خطاب الإبادة الإسرائيلي كل هذه الحمولات التاريخية، من نصوص وخطابات وممارسات، وفي إصرار واضح، لشرعنة ممارساته في فلسطين ولبنان، وسوريا، وهي مسألة يدركها بعض اليهود المعتدلين أو الرافضين للنزعة العدوانية الإسرائيلية التي تستعير الماضوية وتتلاعب بموروثاتها، وتطبقها على واقع مغاير، وضد من لا جريرة لهم في أي أذى لحق باليهود في الأزمنة الغابرة.
لكن صوت هؤلاء يبقى خافتا في وجه أولئك الذين يؤمنون بأن تدمير الأماكن التاريخية يحقق لإسرائيل أحد أهدافها، وهو التخلص من موروث حضاري عربي يقع المعمار أو العمران القديم في قلبه، بحيث يتم تمييع التاريخ أو اجتثاث جذوره، بما يساوي بين الإسرائيليين وبين العرب من حولهم، بعد نزع التاريخ المادي عنهم، على قدر استطاعة الجيش الإسرائيلي.
إن التمسك بالمعالم الأثرية بوصفها جانبا مهما من التاريخ المادي، والتصدي لكل من يسعى إلى الاستيلاء على المكان وخلع سكانه منه، والاعتزاز بإرث حضاري عربي، بشقيه الإسلامي والمسيحي، طالما صنع رافدا قويا في بناء النفسية والذهنية المقاومة، التي تدرك أن مهمتها لا تقتصر على حماية البشر من السكان، إنما أيضا حراسة التاريخ، الذي تشكل المعالم الأثرية جزءا أصيلا منه، ولذا يرى الجيش الإسرائيلي أن إحدى مهامه القتالية هي تدمير هذه النفسية والذهنية أو على الأقل زعزعتها...