إنما الدنيا لأربعة نفر

0 1

روى الترمذي عن أبي كبشة الأنماري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر أو كلمة نحوها.. وأحدثكم حديثا فاحفظوه: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء)... قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

هذا الحديث قسم الناس بالنسبة للعلم والمال إلى أربعة أقسام، وهي قسمة جامعة:
فالناس بالنسبة للعلم: عالم أو جاهل، وهؤلاء بالنسبة للمال غني أو فقير.. فآلت القسمة إلى أربعة لا خامس لها: عالم غني وعالم فقير، وجاهل غني وجاهل فقير. أو بتعبير آخر غني عالم وغني جاهل، وفقير عالم وفقير جاهل.

فضل العلم والنية
ثم أشار النبي بعد ذلك إلى أمرين غاية في الخطورة والأهمية:
الأول: فضل العلم وثمرته، والثاني: أهمية النية وخطورتها.

فأما فضل العلم فظاهر في الحديث كله.. فبان في الغني العالم وفي الفقير العالم أثر وجوده، كما ظهر في الغني الجاهل والفقير الجاهل، أثر غيابه.

وأما النية فظهر أثرها في العالم الفقير، وفي الجاهل الفقير. وكيف أن أحدهما رفعته النية إلى أفضل المنازل، وكيف هبطت بالآخر إلى أخبث المنازل؟

ونعود إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم في تقسيم الناس:
فأولهم عالم غني: (عبد رزقه الله مالا وعلما) فهو رجل عالم رزقه الله مالا، فسلط علمه على ماله؛ فقاده إلى حسن التصرف فيه، فهو يتقي فيه ربه، فيصل به رحمه، ويعرف لله فيه حقه.
والعبد كلما كان أعلم، كان بحق الله في كل شيء أعرف، فيعرف حق الله في المال، وتنوع مصارفه، وما يحبه الله فيه، فيصل فيه رحمه، ويعطي المساكين، ويقضي ديون المعسرين، ويكفل الأيتام والأرامل، ويعطى المساكين، ويبنى المساجد، ويحفر الآبار، ويطبع المصاحف، ويكفل الدعاة، وينصر المجاهدين، ويضرب بسهم في كل خير، وينفق في كل باب ينصر به الدين، وينفع به المسلمين، فهذا ماله نعمة، وعلمه نعمة، وهذا بأفضل المنازل.
وخص النبي بالذكر صلة الرحم لعظيم مكانها وقدرها. فمن أعظم ما يوصل به الرحم، الوصل بالمال، والإحسان بالعطاء.

والثاني عالم فقير: (عبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا) فدله علمه على أن ما يفعله هذا الغني هو ما ينبغي عمله في المال، وأنه خير ما ينفق فيه ويتقرب إليه به، ثم قاده علمه إلى أن النية تبلغ مبلغ العمل، فتمنى صادقا لو أن الله وهبه مثل هذا الغني لعمل مثل عمله، وعلم الله صدقه فبلغه منزلة صاحبه واعطاه مثل أجره..

وأما الثالث فغني جاهل: (عبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما) غني لكنه جاهل، فقضى عليه جهله، وضيعه، فلا علم له يتقي به ربه، ولا علم عنده يعرفه حق الله في ماله، فهو يستعمله في طاعة نفسه، واتباع هواه، وتحصيل لذائذه، وإن كانت في حرام.. فنزل إلى أسفل الدركات، فكان بأخبث المنازل.
وأما الرابع ففقير جاهل: (عبد لم يرزقه الله مالا ولا علما) فلا علم ولا مال، فلم يعرف قبح ما يفعل هذا الغني الفاجر، ولا فساد عاقبته، فتمنى لجهله أن يكون عنده من المال مثل ما عنده، ليفعل فيه مثل ما يفعل.. فعوقب بسوء نيته فكان في الوزر مثله.. فهما في الوزر سواء.

فضل العلم وثمرته:
ولقد ظهر من الحديث كله فضل العلم، وأنه أفضل من المال؛ فالعلم هو الذي رفع الأول حتى صار بأفضل المنازل، وحمل الثاني حتى ساواه بصاحبه، والجهل هو الذي وضع الآخر، فكان بأخبث المنازل، وضيع الرابع فساواه في العقوبة بصاحبه.

فالعلم أشرف من المال وأعلى، كما قال علي رضي الله عنه لكميل: يا كميل، العلم أفضل من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم يزكو بالإنفاق، والمال تنقصه النفقة، ومنفعة المال تزول بزواله. وقد قالوا:
العلم يرفع بيتا لا عماد له .. .. والجهل يهدم بيت العز والشرف.
والعلماء ورثة الأنبياء، وإنما مثلهم كالنجوم في السماء، متى ظهرت اهتدى الناس بها، وإن غابت ضلوا، فالعلم أعظم ما يحصله الإنسان.

أهمية النية وخطورتها:
ثم الأمر الثاني الذي نتعلمه من الحديث هو خطورة النوايا ودورها في حياة العبد..
فالأعمال كلها متوقفة على النية، قبولا وردا، وصحة وفسادا، وثوابا وعقابا... (إنما الأعمال بالنيات) [متفق عليه].

والنية تحول العادة إلى عبادة: فمن نام ليريح بدنه فعل مباحا، ومن نوى أن يتقوى على طاعة الله، وقيام الليل، وصلاة الفجر.. حول نومه إلى عبادة وأجر عليه.
والأكل عادة فمن أكل كما يأكل الناس فعل مباحا، ومن أكل يتقوى على العبادة، والجهاد، والعمل، تحول الأكل في حقه إلى طاعة وأجر عليه.
وهو مفهوم حديث "وفي بضع أحدكم صدقة"، لأنه يطلب به أن يعف نفسه وأهله، وأن يحصن فرجه، ويغض بصره، وأن يحفظ نفسه من الوقوع في الحرام، فكان له على ذلك أجر.

والنية تكبر العمل وتصغره: قال عبد الله بن المبارك: "رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية". قال صلى الله عليه وسلم: (من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا ؛ فله ما نوى )[رواه أحمد والنسائي].

والنية تبلغك أجر العمل وإن لم تعمل:
فـ (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى أصبح، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه، عز وجل)[صحيح النسائي].. وفي حديث ابن عباس: (فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة)[متفق عليه].

وهكذا هنا في حديث الأربعة نفر: بلغ العالم الفقير أجر العالم الغني بصدق نيته، وبعزمه على فعل ما كان يفعله لو أعطاه الله (فهو بنيته فهما في الأجر سواء)..
وفي سنن أبي داود وصحيح مسلم: (من سأل الله الشهادة صادقا بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)[مسلم وأبو داود]..
وفي حديث جابر قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقال: إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم؛ حبسهم المرض) وفي رواية: (إلا شركوكم في الأجر)[مسلم]

تعلم فقه النوايا
وكما تعلمنا من الحديث أن النية الطيبة تبلغ بصاحبها منازل الشهداء وأجور المنفقين الأغنياء، وترفع صاحبها الصادق إلى أفضل المنازل وأعلى عليين... فكذلك النية الفاسدة تقذف بصاحبها أسفل سافلين، وهو جالس في بيته لم يعمل شيئا، كما هنا في الرجل الرابع الفقير الجاهل، (فهو بنيته فهما في الوزر سواء).. فحصل بالنية السيئة وزر الفاسق الفاجر الذي أنفق ماله في وجوه الفسق والشر.
وكما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا عملت الخطيئة في الأرض؛ كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، و من غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها) صحيح أبي داود.

فعلى المسلم أن يتعلم العلم النافع، وفقه النيات، فإن النوايا مطايا، ونية المؤمن أبلغ من عمله، قال يحيى بن أبي كثير: "تعلموا النية؛ فإنها أبلغ من العمل"..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة