ما وراء البيان: الإعجاز القرآني في معترك الفكر

0 1

مدخل

لحكمة إلهية، هيأ الله العرب -قبل مجيء النبي الأعظم ﷺ- للانكباب على العربية، وفتح لهم فنون البيان، وصرفهم عن مشاغل أخرى تلبس بها غيرهم؛ لأمر عظيم سيكونون مادته، وعليهم يدور القبول والرد، ثم بعد مضي الزمان، تكشف لهم أن اشتغالهم بالعربية لم يكن محض صدفة جروا عليها، وساروا في ركابها، بل يد خفية أخذت بأيديهم إلى تسنم ذروة البيان، وعلو اللسان، كما لم يحدث من قبل.

كانت تلك هي التهيئة الإلهية ليتبوأ العرب عرش البيان، ويصلوا فيه إلى مصاف العبقرية، فما عرف الزمان فصاحة كفصاحتهم، ولا بيانا كبيانهم، وما علت أمة بلغة كما فعلت العرب بلسانها، ولا كرم حرف في لغة كما فعل العرب يوم سلمت لهم العربية قيادها. فكانوا فرسان القصيد، وأرباب الخطابة، وسادة الكلمة، فامتد لواء البيان فوق سطح الجزيرة العربية كلها.

وامتدت عظمة الاحتفاء إلى صاحب اللغة والبيان، فقد كان يحتل في تلك العصور القصية مكانا مرموقا، وكان -كما تقضي بذلك الأخبار- يعد شبه نبي ينطق بالوحي الذي يأتيه من شيطانه الخاص، وقام التنافس بين القبائل، وراح الأدباء والشعراء يتبارون في مجال القول، وأقيمت الأسواق ميدانا لتلك المباريات، وأصبح الأدب حديث كل مجلس وناد.

وفي أمة هذه حالها، نزل النص القرآني، فرأوا فيه الدهشة الكبرى، ولمسوا فيه بيانا عاليا لم يتح لهم أن اتصلوا به. فكان أكبر مفحم للشعر والشاعرية والبيان بفنونه المتعددة، وأعظم شاغل عن التصور والتخيل، كما يقول البردوني. لقد كان ذلك الحدث الذي غير المفاهيم، وقلب دنيا العرب، كان أكبر من تصور الشاعرية، وأوسع من مدارك البيان، فهدأ الشعر، وخفت بريقه، وانطفأ مصباح البيان، إذ رأوا نورا صرفهم عن النظر إلى سواه، رأوا ما لا عهد لهم بمثله.

امرؤ القيس ودهشة النص القرآني

ولعل من أجود ما تفاخر به العرب المعلقات السبع، وأجودها معلقة امرئ القيس. ومما أذكره أني كنت أستمع إليها في الممشى، اختطفني الملك الضليل، وأخذتني القصيدة إلى عالمها، فكنت أمشي كأني وحدي في الكون، أنصت باندهاش إلى واحدة من أعظم ما قالته العرب على مر تاريخها في صناعة الشعر. وفجأة، انتهت القصيدة، وانتقل بي الهاتف مباشرة إلى مطلع سورة (فصلت) بصوت القارئ عبد الرزاق الدليمي، أقسم كأني كنت أستمع قبله إلى كلام عادي! لوهلة تشعر بالبون الكبير بين كلام الله وكلام البشر مهما كان عظيما ومتعاليا في مادته اللغوية وأسلوبه البياني، وجدتني أهتف في داخلي: إن الخلاف بينهما ليس خلافا في الدرجة كما يظن، بل هو اختلاف في النوع، نسيج وحده، ومن هنا يتكشف لك معنى العجز الذي وقع للعرب عن مجاراة القرآن، لفقدان الذخيرة القبلية في التفكير اللغوي لديهم؛ ممثلة بانعدام قواعد ومبادئ النظام الخاص بالنص القرآني، المفارق للكلام البشري، ومن هنا أيضا تفهم حيرة العربي في تصنيف القرآن: هل هو شعر أم نثر؟ وعندما تيقن مفارقته لكل ما سمعه وعالجه من أصناف الكلام، أذعن أنه نمط خاص لا يقدر على الإتيان به إلا الإله.

ولما كان للمعلقة ما لها من حضور باذخ في تضاعيف البيان العربي؛ تعرض لها الإمام الباقلاني (ت403هـ) في إعجاز القرآن، بالنقد، فحط عليها، وأزرى بها، وقال فيها ما لا يقال في مثل هذا المقام! ثم أتى العلامة المرصفي (ت1889م) في الوسيلة الأدبية، وأنصف المعلقة، وأعاد لها الاعتبار، مفندا كلام الإمام الباقلاني، ومما قاله في هذا السياق:

فأنت ترى هذا الشيخ كيف عمد إلى قصيدة قد اتفق العلماء وأهل الأدب على تقدمها في الجودة، وعلوها في البلاغة، حتى جعلوها رأس القصائد السبعيات، فأفسد بالنقد صورتها، وغبر في وجه بهجتها.

وما حمل الباقلاني على ذلك إلا انتصارا للنص العظيم، وبيان إعجازه المدهش، وأن نظمه يزيد في فصاحته على كل نظم، ويتقدم في بلاغته على كل قول، فلما كانت ”المعلقة“ قد اتفق على كبر محلها، وصحة نظمها، وجودة بلاغتها، ورشاقة معانيها، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة، والمعروفين بالحذق في البراعة = وقف الإمام الباقلاني على مواضع خللها، وعلى تفاوت نظمها، واختلاف فصولها، وعلى كثرة فضولها، فبينه للناس.

ويرى الباحث عبد الباسط عيد في ”خباء النقد“: أن الهدف لم يكن مناقشة المعلقة في ذاتها، وإنما إثبات تراجع نظمها واختلال بنائها، رغم أنها درة الفصاحة البشرية العربية. أما حقيقة الهدف والغاية كان البحث في الإعجاز، ولم يكن الشعر إلا وسيلة إليه؛ فبدت معلقة امرئ القيس موضوعا لانعكاسات المرايا، وكان عليها أن تتضاءل في نظر الباقلاني على مستويات المفردات، والتراكيب، والتصوير، والبناء.

ولعله أراد أن يقول للمتلقي: إذا كان هذا شأن معلقة امرئ القيس، فاتق أكمام الشعر العربي، وإذا كان هذا شأن معلقته، وهي – درة الفصاحة العربية ومفخرة الشعر وذروة البيان- تأكد لنا تراجع الشعر كله مقارنة بالنص القرآني، وأن الإعجاز فيه لا يمكن مقارنته أو مقاربته بأي قول آخر بعد ذلك.

الإعجاز القرآني بين شاكر وبن نبي

تقول الأستاذ عائشة بنت الشاطئ (ت1998م): وغير خاف على الباحثين عن الحقيقة أن من إعجاز القرآن أن يظل مشغلة الدارسين العلماء جيلا بعد جيل، ثم يبقى أبدا رحب المدى، سخي المورد، كلما حسب جيل أنه بلغ منه الغاية امتد الأفق بعيدا وراء كل مطمح، عاليا يفوق طاقة الدارسين. ولعل ما يؤكد قول بنت الشاطئ تجدد درس الإعجاز القرآني على الدوام حتى وصف أستاذنا الطلعة الدكتور عبد الله الهتاري هذا القرن بأنه من القرون الذهبية في دراسات الإعجاز القرآني.

ولا يخفى أن ما كتبه العلامة محمود شاكر (ت1997م) والأستاذ مالك بن نبي (ت1973م) من أهم الدراسات المعاصرة التي عالجت الإعجاز من زوايا مختلفة، وقد سبقا إلى دراسات متينة تناولت درس الإعجاز القرآني بشتى صوره، وقد تتبعها الباحث نعيم الحمصي وعرض لها في طي كتابه الجامع "فكرة إعجاز القرآن" وهو حري بالنظر فيه والإفادة منه.

وقد سطر الأستاذ مالك بن نبي كتابا بديعا في إعجاز القرآن، ومفارقته لكلام البشر، عني فيه بإثبات صحة القرآن، وفق منهج تحليلي بارع، أسماه الظاهرة القرآنية، وقد عهد إلى الأستاذ محمود شاكر أن يقدم للكتاب، فأتحفه شاكر بمقدمة جليلة، قال فيها: فليس عدلا أن أقدم كتابا، هو يقدم نفسه إلى قارئه...وإنه لعسير أن أقدم كتابا هو نهج مستقل.

وقد وافق شاكر مالكا في أغلب أفكار الكتاب، لا سيما تقرير مالك أن إدراك إعجاز القرآن من أخطر ما يواجهه العقل الحديث. لكن شاكر خالفه في إشارته إلى أن التحدي يتجاوز الإعجاز البياني إلى وجوه أخرى؛ مراعاة للتطور الثقافي والتاريخي، كما أشار مالك.

مجمل فكرة بن نبي في المسألة

يرى أن الإعجاز ليس من توابع القرآن، بل من جوهره وهو بذلك يلائم عقلية المسلم في العصر الحاضر الذي لا يتأتى له أن يدرك إعجاز القرآن على نحو ما كان يدركه العرب الأوائل بذائقتهم البيانية الفطرية، ولا يتأتى له كذلك إدراكه عن طريق القواعد التي دونها العلماء بعد فقد الملكة البيانية الفطرية. أي: إذا عجز من بلغوا أوج الفصاحة والبيان في تاريخ البشرية، ثبت عجز غيرهم ممن هم دونهم في الفصاحة والبيان. ولما كان القرآن يخاطب العربي والعجمي وصالح لكل زمان ومكان، كان لزاما أن لا يحصر الإعجاز القرآني في وعاء الإعجاز البياني فحسب، حتى يتجدد إعجازه في كل عصر بما يناسب الزمان وتحدياته! ولهذا أبان في كتابه عن أوجه عديدة لإعجاز القرآن الكريم تعم (النظم) وغيره باعتباره الحجة التي يقدمها الرسول لخصومه وباعتباره وسيلة من وسائل تبليغ الدين، وقد أوضح أن المسلم اليوم مضطر إلى أن يتناول الإعجاز القرآني بصور أخرى كأن يتناول الآية من ناحية تراكيبها النفسي فيطبق في دراسة مضمونها طرق التحليل الباطن.

ولهذا بين أن القرآن الكريم فيه وضوح في استقلال الذوات أي أن الذوات متباينة "فحتى يحمل النبي ﷺ هذه الرسالة لا بد له من أن يقتنع هو اقتناعا شخصيا، وأن يستدل على الوحي استدلالا عقليا، بأنه وحي مفارق للذات وخارج عنها" فالوضع النسبي للذات المحمدية في الخطاب القرآني جاء في مقام المخاطب المفرد، وسينزل الوحي في الواقع على ذات مخاطبة، تؤديه واسطة عن الذات المتكلمة تستعمل هنا مباشرة اللغة الإلهية لتأمر بالقراءة أميا لا يتخيل نفسه قارئا. وهذه الأمية لا تتناسب مع المعرفة القرآنية الثرة، فكيف لمحمد ﷺ أن يأتي بما أتى به ولم يكن مطلعا على العلوم والمعارف في عصره؟ فهذا دليل على إلهية النص القرآني المباين لقدرة البشر. وعلى ذكر أمية النبي ﷺ وربطها بمسألة الإعجاز؛ فقد سبق إليها الإمام الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن"، وأفاض فيها. وأكدها الأستاذ محمد عبده في رسالة التوحيد.

وملاك الأمر: يرى مالك بن نبي إعجاز القرآن أمرا مركبا يتضمن التأثير الروحي، والنفسي، والاجتماعي، والفكري، والحضاري، ويؤكد أن القرآن يفتح آفاقا واسعة للفكر الإنساني، ويحفزه على البحث والاستكشاف والتأمل؛ لأن الإعجاز من جوهر القرآن يلائم المتلقي في كل عصر، فلا يحصر في ضرب واحد من الإعجاز.

محصل قول شاكر بإيجاز

أن مفصل الإعجاز ومناط التحدي إنما هو شيء واحد هو (النظم) لا غير. أما سائر وجوهه الأخرى، مثل (الإخبار بالغيب، والإشارات العلمية، والأحكام التشريعية) وإن كانت (إعجازا) بيد أنها ليست من التحدي الذي تحدى به العرب.

إذن، فحصر الإعجاز في (النظم) إنما هو باعتبار مناط التحدي، وسائر وجوه الإعجاز تابعة له، وتعدد الإعجاز إنما هو باعتبار مطلق الإعجاز. وهذا معقد مهم في فهم المسألة بينهما. فتأمل.

فإذا فهمت هذا الفرق بين رؤية شاكر وابن نبي اتضح لك تصور كل واحد منهما، فلا تتعجب من المقدمة الطويلة التي تظن أنها لم ترفد كتاب الظاهرة، وتعضده، كأنما هي نص على نص، وما جاءت إلا استدراكا، وليست إثراء لواحدة من أهم المسائل خطرا، وأجلها قدرا، وأبقاها أثرا. بل اتفق الأستاذ شاكر مع الأستاذ مالك في أن (الإعجاز العلمي) و (الإعجاز البياني) من أضرب إعجاز القرآن، بيد أنه يختلف معه في أن الإعجاز الذي تحدى الله به العرب يشمل النوعين، إذ يرى أنه مقتصر على البياني وحده، وعلى هذا الأخير، فالعلاقة بين (الإعجاز البياني) و(الإعجاز العلمي) هي (العموم والخصوص المطلق) إذ يشترك كل منهما في أنه مما يعجز عنه البشر، لكن الإعجاز البياني هو وحده الذي يمثل جوهر التحدي الإلهي.

ختاما

 

الإعجاز القرآني ليس محصورا في نمط لغوي فائق أو بنية بيانية معجزة، وإن كانت هي ذروة الإعجاز المتحدى به، بل هو بحث عن جواهر خفية تحمل دلالات أعمق وأوسع تتجاوز الإطار الزماني والمكاني بما يتناسب مع واقع حال المتلقي. فالإعجاز القرآني دعوة مستمرة للعقل البشري كي يغوص في أعماق معانيه، ويستنبط منها ما يواكب متطلبات كل عصر. ومن هنا يتجلى التحدي المستمر للإنسانية بأن تواكب إدراكها وإلمامها بتطورات الدرس القرآني وأوجه إعجازه، ليظل القرآن في كل حقبة معينا لا ينضب، وموردا سخيا للمعرفة والتدبر.

 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة