- اسم الكاتب:خالد بُـرَيه
- التصنيف:القرآن الكريم
وردت مفردة أمة في القرآن الكريم بمعان متعددة، لا تخفى على كثير من القراء، غير أن آية واحدة أثارت انتباهي منذ لقائي البكر بالقرآن؛ فقد وصف خليل الرحمن إبراهيم - عليه السلام- بأنه أمة: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله} (النحل:120) وقد وقفت على ما أورده أئمة التفسير حول معنى (أمة) في هذا السياق، فوجدت أن المعنى المشترك في ما ذكروه يمكن إيجازه في كونه الرجل العامل الصابر القدوة الذي استفرغ الجهد والبذل لنصرة الحق والدعوة إليه. هذا المعنى البديع يحفز النفس لتتطلع إلى بلوغ ذروة المجد الإبراهيمي، ليكون الفرد منا أمة وحده على غرار الخليل ومن سار على دربه الشريف!
عندما سلم الخليل إبراهيم أمره لله، متبرئا من حوله وقوته لقوة الإله المتعالي، وعاش حياته مذ كان فتى منتصرا للقيم العليا، ساعيا لتحرير الإنسان من ذل الشرك وقيد العبودية؛ استحق أن يكون أمة، نسيج وحده، يعيش لله ويموت لأجله: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام:162) وكما كان النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام خاتم العقد في مسار النبوة، كان أمة وحده؛ لأنه منح ما آتاه الله للنبيين من قبله، وزيادة. بل وربى صحبه ليكون الواحد منهم أمة وحده، فكانوا كذلك، ودونك كتب الأخبار والرجال تنبئك عن أثرهم وثراهم.
وإن الناظر في تاريخ الأمة في الإسلام، منذ أن أسسها النبي صلى الله عليه وسلم ليجعل منها وعاء الرسالة، وحصن الأمانة ومحضنها، يدرك أنها لم تخل قط من نماذج الفرد الأمة...ومن يكون؟ إنه الفرد الذي تمثل قلبا وعقلا ووجدانا قيم الأمة ومثلها وهمومها وآمالها، بحيث جاء فعله من موقعه في لحظة تاريخية معينة وكأنه استجابة لحاجة جامحة تعيشها الأمة في هذه اللحظة. وكأن إرادته إرادة جامعة وليست إرادة مفردة، بها تبعث قيمة عليا من قيم الحق وتحدث أثرها في واقع مشهود.
وليس الفرد الأمة بالضرورة عمر بن عبد العزيز ليعدل مسار دولة، ولا صلاح الدين لينتشل أمة مهزومة من مذلة وهوان، ولا أبا حامد الغزالي وهو يعيش ملحمة إحياء علوم الدين، ولا ابن تيمية وهو يراوح ما بين السيف والقلم حاملا قلب هذه الأمة وعرضها في جوفه، ولا ابن تومرت أو الكيلاني، بل قد يكون فردا في كل عصر وكل مصر، دون اشتراط شهرة أو لقب، قد تكون أنت من موقعك الذي وضعك الله فيه.
الوظيفة الإحيائية للفرد الأمة
ثمة وظائف كبرى يحملها الإنسان على عاتقه منذ الصرخة الأولى، وحتى الرحيل الأخير، وإهمالها يعني ممارسة معكوسة لها؛ ولعل من أبرز هذه الوظائف، وظيفة "الإحياء" التي يحملها الفرد في داخله؛ إذ تتسع الفكرة لتشمل إحياء النفس، والمجتمع، والقيمة، والأخلاق، والدين.
الفرد الذي يعيش هاجس الإحياء لا يعرف الفراغ الداخلي، لأنه يمارس وظيفة تعيد تشكيل المعنى؛ فلا تترك للفراغ مكانا يتسلل إليه، يقوم بالدور الإحيائي في أي زمان ومكان، ولو قدر له أن يكون في صحراء ممتدة؛ لجهد نفسه أن يجعل منها مكانا تمنح الإنسان الشعور بقيمة البقاء!
ثمة أمثلة لأفراد عاشوا هم الإحياء؛ فقد سجن السرخسي، والزوال، وابن تيمية، وسيد، فمارسوا وظيفة الإحياء على أكمل وجه، كتبوا، وصنفوا العلوم، وهذا لعمري من أعظم الإحياء. وسجن آخرون؛ فتحولوا إلى بقعة ضوء، يمارسون وظيفة الإحياء بين الأرواح التائهة، فكم من مهشم الروح، تلبسه الشعور بالعدم؛ واللاجدوى، تحول إلى صاحب قضية؛ ومعنى يكاد يبين، بفضل إحياء أثمر في داخله.
إن انعدام فكرة الإحياء نتيجة حتمية لتضخم الفردانية، والنأي بالنفس، وطلب السلامة، والعجز، والاكتفاء بنقد الواقع دون محاولة تغييره، مما أدى إلى تلاشي فكرة الفرد الأمة.
من ارتضاك رفيقا، فلا تتركه في الظلام، فذا ضرب من الخذلان. على كل منا أن يقوم بوظيفة الإحياء حيثما كان؛ بيانا لمعنى اتصال الأرض بالسماء، وانعكاسه على بناء الإنسان والمجتمع. ولعل من أهم التجليات الناتجة عن وظيفة الإحياء؛ رفع قيمة المعنى لدى الإنسان، المعنى من الوجود، المعنى من المدافعة، معنى الحياة...فمن عرف حقيقة المعنى، نجى من عواصف التيه، واتساع العدم في داخله!
نموذج قرآني للفرد الأمة
في سورة القصص يأتي الحديث عن رجل مجهول جاء ليحذر موسى عليه السلام: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} (القصص:20) كان القوم قد اجتمعوا على قتل موسى عليه السلام، فجاء حديث الرجل مختصرا في إيجابية قاطعة، وضع بين يدي موسى حل الخروج العاجل، والهجرة فرارا بدينه من بطش الطغيان الفرعوني الذي يظهر أن "الرجل" كان موقنا بما يضمر لموسى؛ ولهذا قال له: {إني لك من الناصحين} (القصص:20) لقد علمت الشر فيهم، وقد أزمعوا على قتلك واجتثاث الدعوة التي تحملها، إنهم يريدون التخلص منك؛ ليبقى الطغيان ممتدا، بعيدا عن الأيدي التي تحفر في الجدار، فاخرج. لقد تحول الرجل الفرد إلى أمة؛ لأنه استجابة لحاجة جامحة تعيشها الأمة في تلك اللحظة، لقد تمكن وحده من نصر دعوة الأنبياء، والحفاظ على النبي، ودعوته، فرسالته حياة لأمة كاملة تنتظر الخلاص والنور.
وفي سورة يس نجد رجلا آخر يأتي من أقصى المدينة ناصحا قومه باتباع الرسل، متيحا لهم فرصة الحوار على خلاف الرجل في قصة موسى {وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين} (يس:20) كانت فكرة الرجلين واحدة؛ حماية "جناب الدعوة، وحماية الكيان المسلم"؛ لكن الخطاب اختلف بينهما بحسب تطلب الحال والوقائع، وهذا ما نجده تطبيقا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، عندما نزل حكم الاستئصال بأصحابه للتنكيل بهم، واجتثاث شأفتهم، أمر أصحابه بـ "الخروج والهجرة"، وكان "الأمر" هنا شبيها بقرار صاحب موسى الذي قدر الوضع جيدا، وانطلق بقرار حكيم؛ لإنقاذ الدعوة وأصحابها من الهلاك والتلاشي؛ فأمر موسى بالهجرة والخروج. في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في مكانه في مكة، وفي اللحظة التي مكر فيها المشركون، وقرروا إسكات صوت النبوة، باتفاقهم على قتل صاحبها، أمر الله نبيه بـ "الخروج والهجرة"؛ حفاظا على مكتسبات الدعوة، والبناء في مكان آخر؛ استمرارا وامتدادا للجهد المبذول.
وهنا يتضح أن كلا الأمرين مرا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا، فقد كان دورهم الإحيائي يستحق الإشادة والتنويه من الله، فجعل "سعيهم" قرآنا يتلى إلى يوم الدين، ومثلها قصة مؤمن آل فرعون؛ لأنها دعوات "فردية" تغييرية إحيائية حاولت إنقاذ كيان الجماعة المسلمة، وحمتها من الاجتثاث، وتعرض أصحابها للإيذاء من أجل بقاء دعوة الله، فكان الرجل الواحد منهم أمة!
وستبقى قصة الرجلين تتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لا يعرف من هما، لكنهما أسهما في التغيير، وخاضا معركة الوعي، وتركا أثرا في مسير دعوة الأنبياء. كان كل منهما أمة في "رجل"، ففي اللحظة التي قررا فيها الخروج لإنقاذ "أمر السماء" لم يفكرا في أمر نفسيهما؛ إذ لم يكن الهم حينها إلا بقاء ضوء النبوة خشية عليه من الانطفاء، ونصرة الحق المتمثل في الرسل. ومن أجل ذلك كافأهما الله وخلد ذكرهما؛ ليكونا نبراسا لمن أتى بعدهما يكمل البناء، ويحمي الدعوة، وينشد التغيير بفردية خالصة لا تبتغي إلا الله دون سواه.
ومجمل القول: الفرد الأمة، ذاك الذي يحمل هم أمته ومشروعها، ويسعى في سبيل إحيائها، إنه النموذج القرآني الخالد الذي يجسد القوة في الالتزام والصدق في العزيمة، فرد لكنه يحمل بداخله روح الجماعة، ويتحول بوعيه وعمله إلى أمة قائمة بذاتها. فكما كان إبراهيم أمة، كذلك كل فرد ينهض بدوره في الإصلاح والإحياء يضيف لبنة إلى صرح الأمة، ويؤكد أن التأثير الكبير يبدأ من إرادة الإنسان الصادق مهما كانت الظروف والتحديات.