- اسم الكاتب:خالد بُـرَيه
- التصنيف:اقرأ في إسلام ويب
أقف إجلالا لمن عكف على مشروعه الخاص، واستمطر الجهد لإتمامه، وانقطع عن الشواغل، ونأى بنفسه عن محارق العمر، ووهم الإنجاز اللحظي، هذا الصنف من البشر، انفجرت عوالم الحلم في داخلهم، أحكموا البوصلة، وقرروا المسير، تمضي سنوات وأخرى وهم يعملون بصمت في الخلوات، ثم يخرجون إلى الناس بأعمال عظيمة، تحفر مكانها في تاريخ الخلود المعرفي، ويأبى الزمان أن يطويها في معطف النسيان.
وإن القارئ لتاريخ العظماء، من العلماء والمفكرين والأدباء وأصحاب المشاريع الكبرى، يلحظ أن المشترك الأعظم بينهم جميعا هو ذاك النفس الطويل، والإصرار على الهدف مهما تعاظمت العقبات، واستعصت الحلول، والتوازن بين العمل الدؤوب والبصيرة النافذة.
إنهم أناس علموا أن الخلود لا يكتسب بالعابر من الأعمال، بل بالمشاريع التي تستهلك فيها الأعمار، وتبذل لأجلها المهج.
وما رأيت أحدا عكف على مشروعه الخاص إلا وعلمت أنه عرف الطريق فلزمه، لقد فتح له باب التوفيق، فما كل واحد يوفق لمشروع يضعه في ناصية الخلود، فكم بعثرت من جهود، وكم من أعمار أحرقت، وكم من ألمعي تاه عن الطريق، لأنه فقد البوصلة، فكل مشروع يرتضيه المرء للاشتغال به؛ هو بوصلته للوصول إلى تحقيق الأمنيات النبيلة الساكنة في أعماقه.
مكث مفخرة العصر العلامة الطاهر ابن عاشور (ت:١٩٧٣) زهاء أربعة عقود يعمل على أهم تفسير معاصر، فخرج إلى الأمة بـالتحرير والتنوير، فحرر العقول من العجز، واستنارت بجهوده مكتبة الدرس القرآني.
وأمضى العلامة الجليل محمد عبد الخالق عضيمة (ت: ١٩٨٤) نحو خمسة وعشرين عاما لكتابة عمله الكبير دراسات لأسلوب القرآن الكريم، الذي صدر في أحد عشر جزءا (نحو 7300 صفحة)، وفي تصدير الكتاب، كتب العلامة محمود شاكر: "عمل قام به فرد واحد، لو قامت به جماعة لكان لها مفخرة باقية. فمن التواضع أن يسمى هذا العمل الذي يعرضه هذا الكتاب معجما نحويا صرفيا للقرآن العظيم". لقد أدرك شاكر، أن هذا الإنجاز لم يكن مجرد تراكم معلومات أو جهد فردي فحسب، بل كان إضافة نوعية إلى المكتبة الإسلامية، وعلامة فارقة في خدمة النص القرآني.
واستمر العلامة محيي الدين درويش (ت: ١٤٠٢هـ)، نحو عشرين عاما في كتابة سفره العظيم إعراب القرآن وبيانه. وعكف شيخنا اليماني العلامة إسماعيل بن علي الأكوع (ت: 2008) في جمع المعلمة العلمية الفاخرة (هجر العلم ومعاقله في اليمن) أكثر من عشرين عاما.
وعاش العلامة عبد العظيم الديب (ت: ٢٠١٠) شطرا من عمره في تحقيق كتب العلامة أبي المعالي الجويني، وعلى رأسها أعظم آثار الإمام الفقهية، وأكبر كتاب مطبوع في الفقه الشافعي نهاية المطلب في دراية المذهب.
وقل مثل ذلك عن الأستاذ الراحل عبد الوهاب المسيري في موسوعته الشهيرة. وغيرهم كثير ممن عكفوا في محراب العلم، وحددوا توجههم، ومضوا في طريقهم دونما التفات، حتى رست سفينتهم على الجودي!
وانظر إلى العلامة محمود شاكر (ت: 1997)، الذي لم يكتف بدراساته البيانية والأدبية فحسب، بل خلد بفكره النقدي التذوقي مدرسة أصيلة في قراءة التراث العربي الإسلامي، لسان حاله: "لا قيمة لفكرة، إن لم تعش في سبيلها وتقاتل لأجلها"، فتحولت كتاباته إلى مشاعل تضيء لمن أراد الجمع بين الجذور والآفاق.
أو خذ العبرة من الأستاذ مالك بن نبي (ت: 1973)، الذي لم تلهه مشاغل الحياة وصعابها عن مشروعه الحضاري الفكري، فرسم بخطواته خارطة الطريق لنهضة الأمة. بين أوراقه وكتبه، كان يحفر في عمق المعضلة الإسلامية ليعيد صياغة سؤال النهضة بطريقة تجمع بين الفكر والعمل، بين النظرية والتطبيق، ليترك إرثا فكريا ما زالت الأمة تتلمس في دفتيه طريقها.
ولا تقتصر المشاريع العظيمة على الكتب والمؤلفات فحسب، بل تشمل كل فكرة ناضجة، وكل عمل يسهم في رفع شأن الأمة.
فالأستاذ أحمد ديدات (ت: 2005) كان مثالا حيا لمن جعل الحوار بين الأديان مشروعه الخاص، رغم ضعف الإمكانيات، حتى تحولت جهوده إلى مدرسة حوارية فكرية تلهم الأجيال.
وكذلك الأستاذ بديع الزمان النورسي (ت:1960)، الذي قاوم طغيان الفكر المادي عبر سلسلة من الرسائل الإيمانية العميقة، عاش ينحت في الصخر دون أن ينتظر تصفيقا أو تقديرا. وبفضل إخلاصه، استمر أثره ليصل إلى أجيال لم تعرفه، لكنها تأثرت بفكره، وبقيت تستضيء برسائله التي تركها وراءه.
إن هؤلاء وغيرهم ممن أخلصوا للفكرة، كانوا يدركون أن العظمة لا تكمن في ضخامة المشاريع فحسب، بل في أثرها العميق والممتد. كانوا يدركون أن الأثر الحقيقي يبدأ من فكرة صغيرة، يحتضنها بجد وإخلاص، وتنمو بعرق السنين، حتى تستحيل غراسا مورقة تؤتي أكلها.
ولذا، فإن أول خطوة في مشروعك الخاص هي أن تتساءل: "ما الذي أريد أن أتركه في هذه الدنيا؟" هذا السؤال الجوهري سيحدد معالم الطريق. ضع لك هدفا بعيدا، وانطلق إليه متدرجا، فليس البناء الفوري هو ما يدوم، بل ذلك الذي تشاد أسسه على مهل، وعلى وعي راسخ.
واحذر في رحلتك من غواية المقارنة؛ فإن انشغالك بما حققه الآخرون قد يطفئ جذوة مشروعك. لكل طريقه، ولكل مشروع ظروفه وسياقاته. ما يهم هو أن تزرع شجرتك أنت، ولو لم تثمر في حياتك، فثمارها ستنبت حتما يوما ما، فقد قالوا: "ازرع لأجيال لم تولد بعد".
ابدأ مشروعك الخاص (أي مشروع تروم القيام به)، وترغب أن يلتصق بك، وتذكر أن التاريخ لا يحفل إلا بالأقدام الصلبة، التي سارت في جو صاخب، فأبت إلا الوصول. وتذكر أيضا، أن الإنجاز الحقيقي ما تراه في نفسك إنجازا، ويستحق أن تقوم به. وتذكر أن الإنجاز في ذاته ليس هو المحطة الأخيرة، بل هو سلم لغاية أسمى؛ غاية يدرك فيها المرء أنه كان جزءا من البناء الحضاري، وأن مشروعه الخاص أضاء زاوية في طريق الإنسانية الطويل.
واعلم أن ما يهدد هذا الطريق هو الانغماس في "وهم الإنجاز اللحظي" الذي ذكرته آنفا. إننا اليوم في عصر يمجد السريع والعابر، ويندفع فيه الناس نحو حصد النتائج قبل غرس البذور. وهذا الوهم يشتت العزائم، ويضعف الهمم، إذ يحبط الساعي كلما قارن بين جهده الصامت وضجيج الإنجازات الزائفة. والدواء لهذا الداء هو العودة إلى الرؤية الواضحة: العمل بعمق وصبر يثمر دوما ولو تأخر أوانه.
ولا نغفل هنا الإشارة إلى أولئك الذين يظنون أن الركون إلى أحلام دون خطة واضحة، أو الانتظار حتى "تأتيهم الفكرة الكبرى"، هو الطريق الأمثل. كلا، فإن العمل بلا خطة كمن يسير في صحراء بلا ماء ولا دليل. إن المشاريع العظيمة تبدأ بفكرة، لكنها لا تصبح حقيقة إلا بصبر وتخطيط، ومعرفة بمراحل التنفيذ، واستعداد لتحمل التحديات، بل وحتى الفشل في بعض المحطات.
ومنتهى القول: إن المشروع الذي يباركه الله ليس بالضرورة ذلك الذي ينال إعجاب الخلق، بل ذلك الذي أنجز بإخلاص وصدق، وعلقت رايته في السماء قبل أن تعلق على الأرض.
"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم". اعملوا، وأحسنوا إلى أنفسكم والخلق، واستغلوا أوقاتكم سيما في مقتبل العمر، وتوكلوا على الله في كل خطاكم، فما أنتم إلا به، وإذا وصلتم في يوم ما، فاحمدوا الله على هبات التوفيق.