- اسم الكاتب:خالد بُـرَيه
- التصنيف:القرآن الكريم
مما يشغلني دوما ويثير تساؤلي، عن اللحظة البكر لنزول القرآن، عن الدهشة الأولى لتلقي الكلام الإلهي، عن التشوق لمعرفة خبر السماء، عن اللهفة للوقوف على معالجات الواقع المضمنة في النزول المتدرج، يشغلني معرفة كيف تلقى الجيل الأول للقرآن؟ كيف تأثروا به؟ كيف صاغهم النص، وحولهم من جماعة بشرية هاملة منسية في رمال الصحراء تدب على الأرض لا يتجاوز همها التفكير اللحظي بما شغلوا به؛ إلى ثلة مظفرة أضحت ملء السمع والبصر في خارطة الأمم المجاورة!
وينشأ هذا السؤال في خاطري دوما، لأن نزول القرآن لم يكن حدثا عابرا في مسيرة العرب، ولا خطابا يعبر الوجدان ليزول أثره مع الأيام، لقد كان ثورة في التصور، وزلزالا يهدم ما اعتادوه من معان، ليعيد بناء الوجود في نفوسهم على ميزان الحق، والعدل، لم يكن الكتاب الإلهي محض كتاب يتلى، للتلاوة ذاتها حسب، بل كان معراجا يرتقي به الإنسان من وهم الوثنية إلى يقين التوحيد، ومن عبودية الأرض إلى حرية السماء، ومن الغفلة العابثة إلى استشعار الزمن كاختبار حاسم.
أفكر دوما، بالإنسان المكي الذي عانق الدعوة مبكرا بصحبة النبي الأكرم ﷺ، ولم يحظ إلا ببضع سور وآيات، كيف صاغته ليكون نموذجا إنسانيا في تحمل مشاق الدعوة التي انتسب إليها، أحاول أن أستنطق "بلال" وهو يعذب في بطحاء مكة عن مفهوم الصبر الذي يسكنه، عن حضور التوحيد الذي ملأ نفسه فهان في نظره كل أذى ومهانة وتعذيب، كيف تلقى بلال كلمات الإله لتصوغه هذه الصياغة المدهشة؟ وكيف تلقى الصديق خبر السماء ليصل إلى ذروة اليقين والإيمان، فاستوى عنده عالم الغيب والشهادة، وتحول إلى نموذج في حسن التلقي عن الله ونبيه.
ومن أمعن النظر في مفاهيم القرآن المكي، وجدها تستغرق في تثبيت دعائم التوحيد، وهدم صور الشرك، والارتفاع عن الأنداد، والإحساس بحرية العبودية لله، والانفكاك من أسر عبودية الهوى، وتحرير الإنسان من كل قوة مزيفة، والإعلان أن السيد الوحيد هو الله، وأن كل ما سواه عبيد لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا {قل هو الله أحد} (الإخلاص:1) والمتأمل يتكشف له أن القرآن لم يكن يناقش الوثنية بأسلوب لاهوتي مجرد، بل كان يواجه العقل العربي بحجج تزلزل منطقه المعتاد: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} (النجم:23) هنا يتجلى أعنف نقد للمنظومة الفكرية الجاهلية: الأصنام ليست آلهة، بل محض أسماء لا أصل لها في الحقيقة، لتسقط قداسة التقاليد المعززة بالوهم أمام عقلية جديدة لا تقبل الوهم بلا دليل.
وقد أعاد مفهوم الإيمان بالآخرة ضبط البوصلة الوجودية لدى المتلقي، فقد كان العرب يعيشون وفق منطق اللحظة، يأكلون ويتمتعون، ولا يتجاوز أفقهم الدنيا القريبة، فجاء القرآن ليعيد رسم المشهد، ليقول لهم إن الدنيا ليست إلا مقدمة، وأن الحساب قادم لا محالة: {فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} (النازعات:37-41)، لقد تحول الحديث عن البعث إلى معيار جديد للحياة، لم يعد الصحابي ينظر إلى الحدث القائم بعين اللحظة، بل بعين العاقبة، لم يعد يرى الظالم منتصرا، لأن الميزان لم يعد يقاس بيوم أو عام، بل بأبدية تتكشف فيها الحقائق بعد زوال الدنيا.
وقلب مفهوم الدنيا في تصورهم، فلم يعد المفهوم قبل الدعوة المحمدية هو المفهوم بعد صرخة النبي ﷺ بينهم: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا). فقد كانت أعين العرب مشدودة إلى الأرض، إلى السوق والقبيلة، إلى الريح وهي تهب في الفلاة، وإلى البئر وهي تغور أو تمتلئ، كانت الدنيا عندهم واقعا ملحا لا يتيح ترف التفكير فيما وراءه، فجاء القرآن ليعيد تعريفها في أذهان الصحابة لا بوصفها "حقيقة مكتملة"، بل "ظلا زائلا"، "متاعا قليلا"، "لعبا ولهوا"، "زينة وتفاخرا"، لم يكن ذلك احتقارا لعمارة الأرض، بل تصحيحا لموضعها في قلب الإنسان، ودوره الحقيقي فيها، كي لا تستبد به أو تفتنه، بل تكون له جسرا لا قيدا.
فالقرآن المكي لم يطرح الدنيا كعدو، لكنه سلط الضوء على جوهرها العابر، فبدت لهم كسراب في وهج الظهيرة، وكقطرة على خد ورقة، لا تدوم أكثر من لحظة، كانت آيات مثل: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (آل عمران:185) تصنع فيهم تحولا هائلا: فحين أدركوا زوال الدنيا، لم يعودوا أسرى لها، بل صاروا أربابها لا عبيدها، وصارت الأموال والجاه والمكانة أدوات في أيديهم لا قيودا على أرواحهم.
كما لا يخلو الانقلاب المفاهيمي في العهد المكي من تغيير العديد من المعاني، مثل: الصبر، واليقين، والغيب، والإيمان، والنبوة، والزهد، والسيادة، والزمن، لقد عمد القرآن إلى إحلال معان مغايرة للمفاهيم السائدة، وأعاد صياغة المفاهيم فتغيرت النفوس الحاملة لها، ولعل أخطر ما أدركه المتلقي للقرآن المكي منذ لحظات التشكل الأولى، معركة الصراع بين الحق والباطل، وحتمية الانتصار: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} (الأنبياء:18). ولذا، سار في طريق الحق غير هياب، يقصد الله، والدار الآخرة، ينشد العدل، ويبذل الأسباب، ويستفرغ جهده، ليعانق النصر في خاتمة المسير؛ تحقيقا لموعود الإله!
الخطاب الاستعلائي للنص القرآني
وإن من أعظم ما يثير انتباهي في النزول المكي، خطابه الاستعلائي المدهش، ولذا، فلا غرو أن يتلقاه المرء فيشعر ببرد اليقين يسري في كيانه، وتتضاءل أمامه عرام الزينة، وبهرج الفتنة، ومجالس الكفر، والسيادة، والطغيان، وتتهاوى أمامه أبهة الباطل بكافة صورها، يقول لهم القرآن المكي منذ وقت مبكر: {كلا لا تطعه واسجد واقترب} (العلق:19)، ثم ينفخ فيهم معنى العزة والإباء الإيماني، والإحساس بكرامة الانتماء، فيقول لهم: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون} (القلم:35-36) إنه رسم دقيق للحدود الفاصلة بين الحق والباطل، بين أهل الإيمان وأهل الإجرام، فلا يلتقي الفريقان، ولا يستوي نهجهما، بل هما على نقيض دائم لا تزول حدوده ولا تندثر معالمه، ولو تتبعت السور المكية لرأيت خطابا شامخا بعلو الإيمان، يبني الشخصية المسلمة بناء صلبا منذ لحظة استسلامها المطلق للإله الواحد، وبهذه الذخيرة الإيمانية الاعتزازية جابهوا الشرك وأهله، وانفكوا من أسر الطغيان الذي أوشك أن يفتك بالدعوة وصاحبها، ثم مضوا في مسيرهم يقتفون أثر الضياء الخالد الذي وقر في نفوسهم، وسكن في ضمائرهم، حتى أضحوا مشاعل للنور وصل أوراها إلى كل الدنيا.
ولم يكن الاستعلاء في الخطاب المكي لونا من الترف البلاغي، بل كان ضرورة حتمية تقتضيها طبيعة المعركة بين الحق والباطل، حيث واجهت الدعوة الناشئة طغيانا متجذرا، وسيادة متجبرة، وقلوبا ران عليها الكبر والعناد، فجاء الخطاب المكي شاهقا، يعلو فوق المادية المهترئة، وينسف الجاهلية نسفا، ويهزأ بجبروت الطغاة، مستحضرا مشهد القيامة بكل هيبته وروعته، ليقرر للناس أن لا سلطان إلا سلطان الله، ولا رفعة إلا رفعة الإيمان.
وإن الناظر ليدرك كيف يسقط القرآن أوهام العظمة الدنيوية، وينزع الهيبة المصطنعة عن السادة المتألهين، فتجده يخاطب أكابر قريش بلغة التحدي التي لا تخشى بأسهم ولا تقيم وزنا لثرائهم وجبروتهم: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر:45) وهي آية نزلت بمكة حين كان المسلمون قلة مستضعفة، تحاصرهم قريش بكل أدوات القهر والتنكيل، ومع ذلك يلقي القرآن بوعد قاطع لا يحتمل التأويل: هؤلاء المتجبرون، الذين يملكون السلاح، والمال، والعدد، والعدة، سيهزمون شر هزيمة، وسيفرون مذعورين! إنها كلمة تفيض بيقين لا يعرف التردد، وقد تحققت يوم بدر، حين انقلبت الموازين، وتبعثرت أحلام المستكبرين في وهج السيوف اللامعة.
ولا يتوقف الاستعلاء المكي عند التحدي الصريح، بل يتعداه إلى التحقير الساخر من الطغاة، وإظهارهم بمظهر الضعف والضآلة رغم ادعاءاتهم العريضة، تأمل كيف يخاطب القرآن أعتى فراعنة قريش، أبا جهل، بقوله: {كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى} (العلق:6-7). وكأنما يرسم المشهد بلمسة ساخرة: رجل متوهم بالسيادة، يظن أن المال والسلطة جعلته فوق القانون الإلهي، فينزع القرآن عنه مهابة الجبروت، ويظهره في حقيقته المبتذلة: مجرد إنسان ضعيف، أوهمه ثراؤه بأنه صار إلها صغيرا، ولكن الواقع أنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا يستطيع رد قضاء الله ولو امتلك خزائن الأرض، ومن دلائل الاستعلاء الإيماني في الخطاب المكي، هذا الانقلاب الحاسم في القيم والمفاهيم، إذ لم يكن يكفي أن يسلب القرآن المستكبرين سلطانهم المادي، بل انتزع منهم ألقابهم التي كانت تزين سيرتهم في أسماع الناس، فجردهم من بريقها، وكشف زيفها، وحولها إلى أوسمة خزي تلازمهم إلى الأبد.
فأبو الحكم، الذي طالما سادت كلمته في مجالس قريش، وصدرت آراؤه كأحكام لا ترد، لم يكن في ميزان النبوة سوى رجل أعمى البصيرة، مترد في لجج الجهل، فانخلع عنه لقبه المهيب، وحمل منذ ذلك اليوم اسما يجسد حقيقته العارية: "أبو جهل"، وكذلك عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، الذي كان اسمه موصولا بمعاني العزة والمنعة، فإذا بالقرآن يضعه في مقام لا نجاة منه، ويقضي عليه بلعنة تتردد أصداؤها أبد الدهر: {تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب} (المسد:1-2) فلا بقي له عز، ولا حماه نسب، بل صار مثالا ونموذجا لكل متجبر مغرور، يخال أن المال والجاه حصن يمنعه من بأس الله، حتى إذا أحاطت به سنن القدر، خر كما يخر الهشيم بين ألسنة اللهب، لا يسمع له همس، ولا يبقى له في ذاكرة الزمن إلا ذكرى الهلاك والمحو.
بمثل هذا الخطاب الاستعلائي الشامخ المبكر، تشكلت الشخصية المسلمة الأولى، فلم تكن قريش تواجه مجموعة من الأتباع الخائفين، العبيد الذين ألفوا حياة الذل والمهانة، بل رجالا ونساء يحملون في صدورهم يقينا يزلزل الجبال، ونفوسا تأبى الذل والانكسار، لقد صنعهم القرآن صناعة مدهشة، حتى إذا جاء يوم الفتح المرتقب، دخل النبي ﷺ وأصحابه مكة أعزة كأنهم الملوك، وأصبح المستضعفون بالأمس هم السادة اليوم، إنه الاستعلاء الإيماني الذي لا يبنى على كبر زائف، ولا عنجهية مستعلية، بل هو استعلاء القلوب المؤمنة التي ترى نور الحق في أبصارها، فلا ترهبها سطوة الطغيان، ولا تغريها زخارف الدنيا، لأنها أعلم بأن "العاقبة للمتقين".
ملاك القول: لقد ولدت من آيات القرآن المكي نفوس كبيرة، ترى الحاضر بعين العابر، وترى المصير بعين الثابت، وهكذا كان لهم أن يغيروا وجه الأرض، لقد قلب القرآن المكي المفاهيم رأسا على عقب، فإن النص القوي هو الذي لا يترك القارئ كما هو، بل يجبره على إعادة التفكير، على إعادة ترتيب الأولويات، على خوض صراع داخلي بين ماضيه ومستقبله، كما تنص نظرية التلقي والجمال، وهذا بالضبط ما فعله القرآن المكي في متلقيه، لم يخبر الصحابة فقط أن الدنيا فانية، بل جعلهم "يرون" ذلك، لم يقل لهم فقط إن الآخرة حق، بل جعلهم "يشعرون" أنها أقرب إليهم من أعينهم، وهكذا، خرجوا من تجربة التلقي القرآني مختلفين تماما عن ذواتهم السابقة: رجالا يحملون في قلوبهم يقينا لا يهتز، ويرون العالم برؤية تتجاوز اللحظة إلى الأبدية.