كاد قلبي أن يطير

0 0

أزعم أني قرأت مئات إن لم يكن آلاف الكلمات المأثورة عن القرآن الكريم، وأثره، وتأثيره، لكن جملة واحدة كثيفة بقيت لسنوات طوال تسكنني، تعيش في وجداني، تحيا في سجل الذاكرة، كلما مضى الزمن عادت تطن في رأسي، كلما دفنت رأسي قارئا للنص الإلهي بدت لي، كأنها تستحثني أن ألج عوالم الدهشة، والوقوف على السر المكنون، ولمح أنوار الإدهاش في تضاعيف النص الخالد، إذن، هي كلمات تقرؤك، قبل أن تقرأها، قيلت لتعيش في ضمائر الخلق، نطق بها صاحبها لتكون حجة ينقب في طيها المتلقي عن بواعث القول، ويجهد في كشف المسكوت عنه في بنيتها.

في مساء مشهود، قدم الجبير بن مطعم إلى النبي ﷺ فسمعه يقرأ القرآن الكريم، أرخى أذنيه لصوت السماء، فذهل وسقط في الحيرة، جذبته قوة النص فتصلب في مكانه، ينصت وينصت، افتتح النبي الأعظم ﷺ قراءته بسورة الطور: {والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور * إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع * يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا * فويل يومئذ للمكذبين * الذين هم في خوض يلعبون * يوم يدعون إلى نار جهنم دعا * هذه النار التي كنتم بها تكذبون} (الطور:1-14) حاول الجبير أن يستجمع قواه، لكن الأرض دارت به كما لو أنها تتهاوى في فضاء بلا قرار، وانتفض قلبه في صدره انتفاضة أسير آنس نداء الحرية بعد طول قيد، والنبي ﷺ يسترسل بالقراءة بصوت ندي ما سمع الزمان صوتا أندى ولا أحسن ولا أخشع منه، فلما بلغ هذه الآية: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون} (الطور:35-37)، خارت قوى الجبير، وقال قولته العامرة بسحر اللحظة: "كاد قلبي أن يطير" رواه البخاري. أي:  قارب قلبي أن يخرج من مكانه؛ لما تضمنته الآيات من بليغ الحجة. وقولته هذه تذكرني بقول المستشرق آرثر آربري (ت1969م): "عندما أستمع إلى القرآن يتلى بالعربية، فكأنما أستمع إلى نبضات قلبي".

وإني كلما تفكرت في قولة الجبير، سألت نفسي: ما الذي سمعه الجبير حتى بلغ به الوجل هذا المبلغ؟ ما الذي جعل قلبه، وهو القرشي الصلب، يوشك أن ينتزع من بين ضلوعه؟ ما الذي وقع في روعه حتى يقول ما قال؟ أي تأثير سكنه لينطق بهذه الجملة الكثيفة؟ إنه لم يسمع محض كلمات عابرة تلوكها الألسن في بطحاء مكة أو في أحد مرابض الشعر في أرض العرب، بل تلقى شهبا من اليقين، انهمرت كالسيل الجارف، تسوق العقل إلى حتمياته، وتطارد الغفلة إلى زواياها القصية.

يبدو أن كلمات الجبير بن مطعم لم تكن صدى لانفعال عابر، ولا تعبيرا عن دهشة مألوفة، بل كانت نفثة صادقة من فطرة اصطدمت بالحقيقة المطلقة، فاهتز لها الوجدان حتى كاد ينخلع من موضعه، لحظة واحدة كانت كفيلة بأن تجتاح يقين رجل لم يكن حديث عهد بالكلام، ولا غريبا عن البيان، لكنه سمع شيئا لم يسمعه من قبل، سمع النص الذي لا يترك أحدا في مكانه، ولا يمر على القلب كما تمر سائر الأصوات.

وقد احتشد في نفسي كلام كثيف عن بيان سورة الطور، ومعانيها، وأنوارها التي قذفت في قلب الجبير، ثم تذكرت -فجأة- صاحب "الظلال" فلا يليق بمثله أن يغفل ظلال المهابة التي ارتسمت في وجدان الجبير، ولذا، افتتح كلامه عن السورة بقوله: "هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير في القلب البشري. ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه. ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان.. حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها، وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام! وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة، والمعنى والمدلول، والصور والظلال، والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء". وكأن صاحب "الظلال" كان حاضرا في تلك اللحظة، فوصف بدقة ما اختلج في نفس الجبير حين قال: "ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف، وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق، وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس، لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام!". فكأنه يترجم بكلامه ارتعاشة قلب الجبير في تلك اللحظة المهيبة.

وقوام مقصد سورة الطور تقرير البعث، وبيان سوء عاقبة المكذبين، وحسن عاقبة المؤمنين، والرد على مفتريات المشركين وأكاذيبهم، وسحق أوهامهم، ومجابهتهم بمنطق العقل والحجة، فلما سمع الجبير كل هذه الظلال واحتشدت في نفسه، قال ما قاله تحت وقع سطوة البيان الإلهي.

استفهام لا مفر منه

لنعد للوقوف مع الجبير في المساء المشهود، والآيات تنساب إلى سمعه بخفة الماء حين يسري في أرض ممحلة فيحييها، لقد جاءت الآيات كوقع القدر، تهدم صروح الغفلة، وتضيء بوهجها تلك المساحات التي طالما حجبتها العادة والمكابرة:

{أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون

ساقت السورة {أم} الاستفهامية خمس عشرة مرة، وكلها إلزامات؛ ليس للمخاطبين عنها جواب، إنها محاكمات عقلية صادمة، هدير منطق يحاصر الذهن، ويوقف المرء أمام الحقائق الكبرى الفار منها، استفهام يسقط الإنسان من أوهامه في لحظة واحدة، فإذا به أمام الحقيقة المجردة، عاريا من كل تبرير، لقد كان صفعة مدوية تسقط الضلالات من عليائها، فإذا العقل المحجوب بالركون والتسليم للعادة يجد نفسه حرا للمرة الأولى، يرى الكون كما ينبغي أن يرى، بلا غشاوة، بلا هروب، لقد كان استفهاما يزحزح العقل من وساوسه، وانكفائه على سلطان ذاته، وسطوة أوهامه، فإذا به يحدث زلزلة لا قرار لها إلا بجواب يوصل حيرته إلى جودي الأمان = بأن لهم خالقا هو رب السموات والأرض، تجب عليهم طاعته وعبادته، والإذعان له، والاستسلام لهيمنته المطلقة.

{أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون

هنا يقف الإنسان بين السماء والأرض، فتبدو له المسافة بينهما كذرة تائهة، ويكتشف للمرة الأولى حجمه الحقيقي، صغيرا، عاجزا، لا يملك من أمره شيئا، فكيف بمن حوله؟ وكيف بالكون الممتد من حولهم؟

لقد جاء الاستفهام في هذه الآية، ليهدم غرور القوة، ليظهر الإنسان على حقيقته، ضعيفا، محدودا، عاجزا عن فهم ذاته فضلا عن خلق شيء سواها، فيدرك أنه لم يكن إلا كائنا محمولا على إرادة فوق إرادته، شاء أم أبى.

وللعلامة ابن عاشور تعليق حاذق، فقد توقف عند قول الحق: {بل لا يوقنون} فقد فقال رحمه الله: "إنهم لم يخلقوا من غير شيء، ولا خلقوا السماوات والأرض؛ فإن ذلك بين لهم فما إنكارهم البعث إلا ناشئ عن عدم إيقانهم في مظان الإيقان، وهي الدلائل الدالة على إمكان البعث، وأنه ليس أغرب من إيجاد المخلوقات العظيمة، فما كان إنكارهم إياه إلا عن مكابرة وتصميم على الكفر، والمعنى: أن الأمر لا هذا ولا ذلك، ولكنهم لا يوقنون بالبعث فهم ينكرونه بدون حجة ولا شبهة، بل رانت المكابرة على قلوبهم"، وقد أودى بهم الكبر والعناد إلى مهاوي الردى.

{أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون

وهذا سؤال يطيح بادعاءات البشر، فإذا بهم مجرد أفواج من العابرين، تتحكم بهم الأقدار، لا يملكون من الأمر إلا وهما يشترى ويباع، حتى يسقطهم السؤال أمام أنفسهم سقوطا مدويا، إذ كيف لمن يقف على حافة المصير، لا يملك لنفسه شيئا، أن يزعم امتلاك غيره، فضلا عن امتلاك المصير؟ وكأني بالجبير وقد فهم منها أنها صفعة أخرى لأهل الاستكبار، من يحسبون أن القوة في أيديهم، وأن خزائن الغيب ملك لهم، وهم لا حول ولا قوة لهم إلا الادعاء والوهم، يقول سيد: "وإذا لم يكونوا كذلك، ولم يدعوا هذه الدعوى. فمن ذا يملك الخزائن، ومن ذا يسيطر على مقاليد الأمور؟".

لقد وقعت سهام الاستفهام في قلبه، فكاد أن يطير من مهابة ما سمع، إنه ثقل السؤال الذي يفر المرء من إجابته تحاشيا للحقيقة المقلقة، لقد بدأ الجبير مذ وعى هذه الآيات يبحث عن إجابات منجية تخفف وطأة القلق الذي ينهشه. ومما يرويه أهل السير أن تلقيه لهذه الآيات كان من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد.

صفوة القول

 

يتجلى سلطان القرآن، حين ينفذ إلى الفطرة فيزلزلها، فينتزع القلب من أسر التردد، وهواجسها، ويسمعه صوت الحق بأعلى ما يكون، فلا يبقى للمرء إلا أن يتبعه، أو يرتد مذعورا، يعلم أنه رأى، لكنه يعجز عن المضي. أما الفطرة الصادقة، حين يدوي في مسامعها صوت الوحي، تنتفض بكل جوارحها، كطائر أسير، وقعت أذنه على نداء الحرية، فنفض جناحيه بقوة، وكاد أن يطير، وكأن القلب يريد أن يتبعه في رحلة لا رجوع منها إلى ملكوت النور.

 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة