وقفات مع الدعاء في السيرة النبوية

0 1

الدعاء لغة: الطلب، وشرعا: توجه العبد إلى ربه فيما يحتاجه لإصلاح دينه ودنياه.. وقد أمر الله تعالى عباده بالتوجه إليه في حوائجهم الدنيوية لتتيسر لهم، وفي أمور معادهم ليغفر ذنوبهم، ويقبل توبتهم، ويعتق رقابهم من النار.. والدعاء من أقوى وأعظم الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وجعل القلوب متعلقة بخالقها سبحانه، فينزل عليها السكينة والرضا، والثبات والاطمئنان، والسعادة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}(البقرة:186). قال ابن كثير: "والمراد من هذا: أنه تعالى لا يخيب دعاء داع، ولا يشغله عنه شيء، بل هو سميع الدعاء. وفيه ترغيب في الدعاء، وأنه لا يضيع لديه تعالى". وقال السعدي: "هذا جواب سؤال، سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} لأنه تعالى، الرقيب الشهيد، المطلع على السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو قريب أيضا من داعيه بالإجابة، ولهذا قال: {أجيب دعوة الداع إذا دعان}.. والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه، بالإجابة والمعونة والتوفيق. فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء، كأكل الحرام ونحوه، فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء، وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب للاستجابة".. وقد أمرنا الله عز وجل بالدعاء ووعدنا بالإجابة، فقال سبحانه: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}(غافر:60). قال ابن كثير: "هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه، أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، كما كان سفيان الثوري يقول: يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله ـ وليس أحد كذلك غيرك يا رب ـ، وفي هذا المعنى يقول الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب"..

وقفات مع الدعاء في هدي وحياة النبي صلى الله عليه وسلم:
1 ـ الأمر والحث النبوي على الدعاء:
نبينا صلى الله عليه وسلم كان يحثنا على الدعاء دائما، ويبين لنا فضله، ويحذرنا من تركه. عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة، ثم قال:{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}(غافر:60)) رواه الترمذي. وقال صلي الله عليه وسلم: (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا (خاليتين ليس فيهما شيء)) رواه أبو داود.. وقال صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه) رواه الترمذي. قال ابن القيم في "الجواب الكافي": "من أراد الله به خيرا فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه"..
2 ـ آداب الدعاء:
لما كان الداعي يسأل ربه سبحانه ويناجيه، كان لزاما عليه أن يتأدب بآداب ليكون دعاؤه أقرب للقبول، فبحسن الأدب يلبى الطلب، وبتتبع أقوال وهدي النبي صلى الله عليه وسلم يظهر لنا الكثير من آداب الدعاء، ومن جملة آداب الدعاء التي جاءت في الأحاديث النبوية: تحري الأوقات الفاضلة، كالسجود، وعند الأذان، ومنها تقديم الوضوء، واستقبال القبلة، ورفع الأيدي في خشوع وتذلل وخفض الصوت، وتقديم التوبة والاعتراف بالذنب، وافتتاح الدعاء بالحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال بأسماء الله الحسنى، والإلحاح في الدعاء وتكراره مع اليقين بالاستجابة، ويبدأ الداعي بنفسه في الدعاء، ولا يضيق في دعائه فرحمة الله وسعت كل شيء، وعدم الاستعجال في تحقق المدعو به، أو الدعاء بإثم أو قطيعة رحم، والدعاء في السراء والضراء، والدعاء بالمأثور، فلا أحسن مما ورد في الأدعية القرآنية والنبوية فهي أولى ما يدعى به، لأنها شاملة للخير كله، في أفضل العبارات وأجمعها..
3 ـ الإكثار من الدعاء، وعدم الاستعجال في تحقق المدعو به:
إذا اشتمل دعاؤك على الآداب التي علمنا إياها نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم تر أثرا للإجابة فاعلم أن الله صرف عنك من السوء ما هو أنفع لك، أو ادخر لك في الآخرة ما تكون أحوج إليه. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يدعو، ليس بإثم و لا بقطيعة رحم إلا أعطاه إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها، قال (أحد الصحابة): إذا نكثر، قال: الله أكثر) رواه أحمد. وفي الحديث أن الاستجابة للدعاء غير مقيدة بنزول وحدوث المطلوب، فقد يكفر عن الداعي من ذنوبه بدعوته، أو يدخر له أجرها في الآخرة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي) رواه مسلم. وفي رواية: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع (يترك) الدعاء).. وقد ذكر النووي في كتابه "الأذكار" عن سفيان بن عيينة أنه قال: "لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلمه من نفسه (من ذنوب)، فإن الله تعالى أجاب شر المخلوقين إبليس إذ: {قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين}(الأعراف:15:14)"..
4 ـ الدعاء يرد القضاء ويرفع البلاء:
جعل الله سبحانه وتعالى بحكمته لكل شيء في هذه الدنيا سببا؛ فجعل الولد يأتي بالزواج، والمريض يشفى بالدواء، وكذلك جعل القضاء يرد بالدعاء، والعمر يزيد بالبر. عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر) رواه الترمذي. قال ابن القيم: "والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن.. وله مع البلاء ثلاث مقامات:أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه، وإن كان ضعيفا. الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه. وقد روى الحاكم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة). وفيه أيضا من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء). وفيه أيضا من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)"..
5 ـ الدعاء والتفاعل مع الآيات الكونية:
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاعل مع الآيات الكونية التي تقع من حوله ويدعو الله تعالى بما يناسبها، فمع الريح كان يسأل الله خيرها ويستعيذ به من شرها. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به) رواه مسلم. ومع الرعد كان يقول: (اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك) رواه أحمد. ومع الغيم والريح بالخوف والدعاء. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه، قالت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية (الخوف)؟ فقال: يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا) رواه البخاري. ومع خسوف الشمس وكسوف القمر بصلاة الخسوف والكسوف، ومع حدوث الجدب والقحط، وتأخر نزول المطر بصلاة الاستسقاء والدعاء..
6 ـ الدعاء على الكفار والدعاء لهم:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وأحاديثه أنه دعا على الكافرين تارة، ودعا لهم تارة أخرى. فالدعاء على الكفار أو الدعاء لهم له أحوال، فحين يشتد عداؤهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين يدعى عليهم، وحين يرجى إسلامهم يدعى لهم بالهداية، ومن ثم فتارة كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم بالهلاك، كما دعا على أهل مكة بالشدة وأن يريهم سنين كسني يوسف، ودعا على صناديد قريش، ودعا على الأحزاب، وتارة أخرى كان يدعو للكافرين بالهداية، كما دعا لثقيف ودوس وغيرهم، وقد بوب البخاري على ذلك بقوله: "باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم". قال ابن حجر: وقوله: "ليتألفهم" من تفقه المصنف، إشارة منه إلى الفرق بين المقامين، وأنه صلى الله عليه وسلم كان تارة يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم، ويكثر أذاهم، والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم (فسادهم وشرهم)، ويرجى تألفهم، كما في قصة دوس"..
7 ـ الدعاء من أعظم أسباب النصر:
المتأمل في السيرة النبوية يستوقفه اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء، خاصة في غزواته وجهاده، وذلك تثبيتا لقلوب أصحابه قبل احتدام القتال، وشفقة عليهم وهم يتأهبون لدخول المعركة، وطلبا للنصر من الله عز وجل الذي بيده الأمر كله، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها: دعاؤه صلوات الله وسلامه عليه في غزوة بدر وأحد والأحزاب، وهي من الغزوات الكبيرة والعظيمة في الإسلام. فالدعاء من أعظم أسباب النصر على الأعداء، وهو مع إعداد العدة {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}(الأنفا:60)، والصبر، والثبات، وتقوى الله، أسباب من الأسباب التي ينبغي العمل والأخذ بها في مواجهة الأعداء.. وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الدعاء في مواطن الجهاد ومواجهة ولقاء الأعداء في المعارك مستجاب. عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثنتان (دعوتان) لا تردان ـ أو قلما تردان ـ: الدعاء عند النداء (الأذان للصلاة)، وعند البأس (القتال في سبيل الله) حين يلحم بعضهم بعضا (تشتبك صفوف المسلمين بصفوف العدو)) رواه أبو داود. وقال ابن القيم في "زاد المعاد" في حديثه عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في القتال: "وكان يشاور أصحابه في الجهاد، ولقاء العدو، وتخير المنازل.. وكان يبعث العيون يأتون بخبر عدوه، ويطلع الطلائع، ويبث الحرس، وإذا لقي عدوه، وقف ودعا واستنصر الله، وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله"..

الدعاء في سيرة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم سبب عظيم لجلب الخيرات والبركات، ودفع البلاء والشرور.. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "اتفق سلف الأمة على أن الدعاء من أعظم الأسباب في حصول المطلوب ودفع المرهوب".. وقال في "اقتضاء الصراط المستقيم": "إذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه دعاءه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءه سببا للخير الذي قضاه له، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه". وقال ابن القيم في "الجواب الكافي": "من ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة، فإن الله سبحانه يقول: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}(غافر:60)، وقال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}(البقرة:186)".. ومن ثم فحري بنا ألا نغفل عن الدعاء مع سائر الأسباب الشرعية التي أمرنا بها ـ من تقوى الله، وسعي، وطلب الدواء، وإعداد العدة، وتحري أحوال وأوقات الإجابة..
قال ابن القيم: "وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب ، وصادف وقتا من أوقات الإجابة الستة وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وإدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعا في القلب، وانكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا، ورقة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله تعالى وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة، ودعاه رغبة ورهبة، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقة، فان هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا، ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي أنها مظنة الإجابة أو أنها متضمنة للاسم الأعظم".. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة