الاحتساب وأثره في الصوم وسائر الأعمال

0 3

شهر رمضان باب عظيم إلى المغفرة، وقد أرادها الله مغفرة عامة لجميع عباده، فلا يبقى أحد من العباد تعرض لهذه المغفرة بعمل صالح إلا دخل فيها، فهي إرادة ربانية بمقتضى رحمته ولطفه بعباده وطلاب مغفرته، وهذه الإرادة ظاهرة من خلال أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي وردت بخصوص أعمال رمضان وترتيب المغفرة عليها.

فالحديث الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" والثاني: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" رواهما البخاري ومسلم. والثالث: قال: "ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".

فنلاحظ أن المغفرة وردت على ثلاث مستويات قلما تفوت على مسلم حريص عليها، فإن لم يحصلها المسلم بإدراك ليلة القدر لخفائها واختصاصها بأهل الاجتهاد والمرابطة، أدركها بقيام رمضان وهو باب أوسع قليلا من إدراك ليلة القدر، فإن لم يدركها بهذين أدركها ولا محالة من باب الصيام، فلا يبقى صائم إلا أدركته المغفرة، هكذا أرادها الله مغفرة للخاصة والعامة.

ولكن حين نتأمل هذه الثلاث الجمل النبوية ندرك أن المغفرة مشروطة بكون المسلم فعل هذه الأعمال إيمانا واحتسابا، ومن تمام التعرض لأسباب المغفرة التفقه بمعنى ذلك حتى يستكمل السبب ويحسن الطلب.
فهاتان الكلمتان واقعتان بمعنى الغاية، وفي الإعراب يقولون إنهما منصوبتان على المفعول لأجله، ويكون المعنى: أنه وقع الصيام والقيام لأجل الإيمان والاحتساب، ويوضح هذا قول رب العزة في الحديث القدسي عن الصائم: يدع طعامه وشهوته من أجلي.

ومعنى إيمانا: أي تصديقا بفرضها ومشروعيتها وبما وعد الله عليها من الثواب.
ومعنى احتسابا: أي أن الصائم القائم إنما فعل تلك العبادة ابتغاء المغفرة وحصول الثواب، فهو يحتسب على الله جوعه وظمأه وسهره وتعبه ونصبه في سبيل تلك الغاية العظيمة، وليس في قلبه طلب لما سوى ذلك من الرياء وحصول الثناء. 
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري": المراد بالإيمان: الاعتقاد بفرضية صومه. وبالاحتساب: طلب الثواب من الله تعالى. وقال الخطابي: احتسابا أي: عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه. اهـ. وقال المناوي في " فيض القدير": من صام رمضان إيمانا: تصديقا بثواب الله أو أنه حق، واحتسابا لأمر الله به، طالبا الأجر أو إرادة وجه الله، لا لنحو رياء، فقد يفعل المكلف الشيء معتقدا أنه صادق لكنه لا يفعله مخلصا بل لنحو خوف أو رياء. وقال الإمام النووي: معنى إيمانا: تصديقا بأنه حق مقتصد فضيلته، ومعنى احتسابا، أنه يريد الله تعالى لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص. اهـ. 

وهذا يعني أن هذه المعاني القلبية من التصديق والإخلاص والرغبة بما عند الله هي أساس للأعمال الظاهرة، فالصيام والقيام سببان للمغفرة لا بذاتهما فقط بل بما يقوم في قلب الصائم القائم من الإخلاص والرغبة بالتقرب إلى الله تعالى، فمن تحقق من تصديقه واخلاصه فقد تعرض للمغفرة وهو لا شك مدرك لها بفضل الله، وهذا هو الظن بالله الذي فتح أبوابه وندب عباده للتعرض لمغفرته ونفحاته. 
فالمؤمن لا يصوم لمجرد إبراء الذمة وإسقاط الطلب، ولا يصوم لأن الناس صاموا فصام معهم، ولا بقصد إنزال وزنه وعلاج معدته مجردا، وإنما يصوم إيمانا واحتسابا، فيجتهد في تمحيض نيته، وتخليص قصده، وتعظيم رغبته برضوان الله، فيحصل المسلم ببركة ذلك على خير العاجل والآجل، فيكون المسلم دائم المراقبة لقصده؛ لأنه قد يدخل على النفس أغراض في العبادة وتتسع شيئا فشيئا حتى تزاحم المقصد الأصلي للعبادة فيخل ذلك بتحقيق الإيمان والاحتساب، وقل مثل ذلك في القيام وسائر الأعمال.

والاحتساب ليس خاصا بالصيام والقيام بل هو ملحوظ في كل الأعمال والقربات، لكنه يصرح به في بعض النصوص، ويقدر ذكره في البعض الآخر، ومن تلك النصوص التي ورد مصرحا بها:
في مجال العادات التي يحولها الاحتساب إلى عبادات عظيمة، وفي مجال الأعمال اليسيرة التي يعظم قدرها وثوابها بالاحتساب، كما قال ابن المبارك: كم من عمل صغير عظمته النية، وكم من عمل عظيم حقرته النية. انتهى
وقال الإمام البخاري: باب: ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى فدخل فيه الإيمان، والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام، وقال الله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته} [الإسراء: 84] على نيته. نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة. انتهى والبخاري رحمه الله يشير إلى حديث رواه عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة.وروى أيضا: عن سعد بن أبي وقاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك. وقد ذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم أن ما ورد في باب الإنفاق على الأهل مطلقا عن قيد الاحتساب فإنه يحمل على المقيد. 
فالاحتساب في باب الإنفاق على الأهل مع كونه واجبا بمقتضى الشرع وبمقتضى الطبع والعادة قد يغفل البعض عن نية الاحتساب فيه فيفوت على نفسه مضاعفة الثواب.
 
ويدخل الاحتساب أيضا في باب الصبر على المصائب والابتلاءات التي ينال بها المسلم أجورا عظيمة إذا احتسبها لله، ففي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبيا لها، أو ابنا لها في الموت، فقال للرسول: " ارجع إليها، فأخبرها: أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب ". وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء، إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة ". فصرح بقيد الاحتساب لنيل هذا الثواب، وهذا يدل على أن الاحتساب مستوى أعلى من مجرد الصبر، إذ الصبر حبس النفس عن الجزع، والاحتساب فوق ذلك باستحضار طلب الثواب وحصول الجزاء، فبالاحتساب ينال المسلم أجرا أعظم من أجر الصبر.
يقول الشيخ ابن عثيمين في التعليق على صحيح مسلم: إن المصائب إذا قابلها الإنسان بالصبر دون احتساب الأجر صارت كفارة لذنوبه، وإن صبر مع احتساب الأجر صارت بالإضافة إلى تكفير الذنوب أجرا وثوابا، ومعنى الاحتساب أن يعتقد في نفسه أن هذا الصبر سوف يثاب عليه فيحسن الظن بالله فيعطيه الله عز وجل ما ظنه به. انتهى.

وورد التصريح بالاحتساب أيضا في أعمال البر والمعاملة بين المسلمين، لأن المسلم قد يفعلها لا بنية الاحتساب، وإنما لأغراض أخرى، كلزوم العادات، ومجاراة المجتمع، ورفع اللوم عن النفس، وغيرها من الأغراض، فيحصل له ما قصد لكن لا يحصل على الثواب لفقد الاحتساب.
ففي صحيح البخاري  عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اتبع جنازة مسلم، إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط.

ويتأكد على المسلم التحقق من نية الاحتساب في العبادات غير المحضة، ولا سيما ما يكون الباعث إليها هو مقتضى الطبع والميل النفسي، فيكون حصول الثواب فيها مربوطا بالاحتساب وطلب الثواب، ويدل على هذا حديث أم سلمة في الصحيحين قالت: قلت: يا رسول الله، هل لي أجر في بني أبي سلمة؟ أنفق عليهم، ولست بتاركتهم هكذا وهكذا، إنما هم بني، فقال: نعم، لك فيهم أجر ما أنفقت عليهم.
وموجب سؤال أم سلمة عن ذلك أنها تنفق عليهم بمقتضى شفقة الأمومة، وهذا أمر لا ينفك عنه الإنسان، فداعي الطبع إليه سابق لدافع الشرع، لأجل هذا شكت لأجل هذه الشائبة في حصولها على الأجر، وسؤالها دليل على احتسابها، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأن لها الأجر.

وقد بوب الإمام النووي في رياض الصالحين لحديث "إنما الأعمال بالنيات" بقوله: باب الإخلاص وإحضار النية في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة والخفية. انتهى. ومعنى هذا أن المسلم محتاج إلى الاحتساب في كل أعماله حتى ما كان منها على سبيل العادة والاستجابة لداعي الطبع، وأن حصول الأجر فيها مقيد بالاحتساب، كالأكل والشرب والنوم والنكاح. 
قال النووي في شرحه على مسلم معلقا على قوله صلى الله عليه وسلم "وفي بضع أحدكم صدقة": وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعهما جميعا من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة. انتهى.
 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة