ورقةُ بن نوفل: شهادةُ الحكيم على لحظةِ الفَصل

0 0

عاد النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء يرتجف فرقا مما رآه وسمعه، فتلقفته خديجة، وقد رأت ملامح التحول في وجهه صلى الله عليه وسلم، فكأنها أدركت ثقل ما نزل عليه، فألهمت كلاما أجراه الله على لسانها ما سمع الزمان أنبل منه، "كلا، والله، لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". وكان لكلامها وقع حسن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها انطوت في حديثها على إشارات ضمنية، مفادها: أن من ضمت سيرته هذه الشمائل الكريمة، والخصال الحسنة، حري به أن يكون على موعد مع أمر عظيم، لا خزي ولا سوء فيه، فكأنها أرادت أن تذيب بعض تخوفاته التي لم تحسم في داخله بسبب ما وقع على نحو مباغت، وكذا ما سيحدث له في قابل الأيام، كما إن تذكير المرء بما هو عليه من مكارم وجلال في حيواته السابقة؛ يسهم في إعانته على تشكيل الأحداث وفق مساره المعهود، لتأتي النتائج بما يتوافق معها، وهي نبوة من الله خاتمة لعهد النبوات التي بدأت مع النبي الأول لتنتهي بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
ثم ذهبت به إلى ورقة بن نوفل، فقالت له: "يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك". فما إن أفضى النبي صلى الله عليه وسلم بخبر الوحي إليه، حتى قال له ورقة: "هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا، حين يخرجك قومك" رواه البخاري. لقد رأى فيه العالم الشيخ نبوءة مستكملة الأركان، وحقيقة لا يشوبها التردد، فكانت كلماته شهادة مبصرة، نفذت إلى لب الحقيقة، واستبصرت مآلاته قبل أن تتجلى للبشر، حين سمع ورقة الآيات الخمس الأولى من سورة "العلق"، لم ينظر إليها كحروف متتابعة، بديعة، كأي نص شعري مما يفاخر به العرب، ولا كخبر معزول عن سياقه الزماني، بل قرأ فيها ارتجاج التاريخ، وانبعاث زمن جديد، وانفصال مرحلة عن مرحلة، وعودة لحركة تاريخ النبوات والابتلاءات وحتمية المواجهة.
لم يقل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد جاءك وحي"، بل قال بيقين العارف: "هذا الناموس الذي أنزل على موسى". هنا، لم يكن حديثه وصفا للوحي في ذاته، بل كان كشفا لمقتضياته، ودلالة على الحدث الكوني الذي وقع في الغار. استحضار موسى عليه السلام لم يكن عفويا، ولا محض نموذج عابر درج عليه الكلام، بل كان استشرافا للمعركة القادمة، إذ كان نزول الوحي على موسى إيذانا بمواجهة الطاغوت، واقتحاما لحلبة الصراع بين العبودية والتحرر.. ورقة، بحكمته ونفاذ بصيرته، أدرك أن هذه الآيات الخمس ليست خطابا روحيا لرجل أثر العزلة على ضجيج الحياة، بل هي إيذان بمفترق حتمي، تتواجه فيه الحقيقة مع إرث الاستبداد، والزيف، في صراع لا يعرف المهادنة، وأن محمدا لن يكون نبيا منعزلا في محراب، بل قائدا ستزلزل دعوته كيان الجاهلية، وستفضي إلى صراع محتوم.
وحين قال: "يا ليتني فيها جذعا، حين يخرجك قومك!" كان يشير إلى ملتقى المصائر الذي لا مفر منه، إنه لم يتساءل إن كانوا سيخرجونه أم لا، بل قررها بوضوح جازم، كمن قرأ القدر مكتوبا أمامه، لقد رأى في هذه الآيات مفتاحا لصراع ممتد، لا يبدأ من قريش وحدها، بل يتصل بحركة التاريخ الكبرى، حيث تتوالى المواجهة بين الرسالات وأرباب الطغيان.
يحق للقارئ أن يتملى هذا المشهد، أن يحدق في وهجه، أن ينعم النظر في تلك الفجوة الزمنية الصامتة بين استفهام النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الجواب القاطع لورقة، حين ألقى صلى الله عليه وسلم بسؤاله المذهول: (أو مخرجي هم؟) فجاء الجواب نافذا كحد الفراق، محتوما كالقضاء المبرم: "نعم".
لحظة تتفجر منها الدلالات، وتتفصد فيها المعاني، كأنك ترى النبي صلى الله عليه وسلم لحظة سماعه هذا النبأ، ملامحه وقد اعتراها شيء من الدهشة، ووجهه الشريف يعكس استغرابا يغشاه ظل الحيرة؛ ليس من قدر كتب له، بل من كشف مباغت لسنن الإله في خطورة دعوة التوحيد، ومن إدراك مفاجئ أن أفق الطفولة ومساحات الألفة التي احتضنته في مكة ليست سوى محطات تمهيدية لرحلة لا مكان فيها للثبات والاستقرار. هل سأترك مكة؟ بقعة الصبا، ومنزلي، وأهلي، ومكاني؟ تساؤل يتردد في صدى المشهد، ليس استفسارا عن المصير فحسب، بل رجع روح أفاقت لتدرك أنها على شفا مرحلة لم تشهد الأرض لها مثيلا.
يمنح استفهام النبي صلى الله عليه وسلم مساحة مفتوحة للقارئ، ليستقرئ في ذلك السؤال الدهشة الممزوجة باستشعار ثقل القدر، وكيف تلقى الخبر كأنه إعلان مبكر لحياة لا تعرف السكون، وكيف كان ذهنه يعيد رسم صورة قومه الذين طالما أكرموه ونظروا إليه نظرة إجلال، ليتساءل: أي ريح عاتية هذه التي ستعصف بهم حتى يتحولوا إلى أعداء يقاتلونه، ويطردونه من داره؟ وهل كان هذا الجواب من ورقة بن نوفل تهيئة نفسية لما تخبئه الأيام من محن ومدافعة ثقيلة؟ كأني به وقد أدرك ـ صلى الله عليه وسلم - من كلام ورقة أن 'اقرأ' لم تكن نداء معرفيا محضا، بل كانت استفتاحا لعهد الصراع إعلاء لكلمة التوحيد، وانتقال من السكون إلى زلزلة الأرض، ومن الأمن إلى معترك المواجهة.
وإذا كان السؤال الذي نطق به في بداية الرحلة قد حمل دهشة التوقعات المخذولة من بني قومه، (أو مخرجي هم؟) فإن كلماته لحظة الرحيل بعد عقد ونيف: (لولا أن قومك أخرجوني منها ما خرجت) رواه البخاري، لم تكن زفرة حنين لموطن مألوف، بل كانت خلاصة تجربة وافية بسنن التاريخ، ونقطة اكتمال النبوة في شهودها القاطع على أن مكة ليست وجهة تترك، بل ساحة يعود إليها النور ليملأها من جديد.
إذن، كان ورقة شاهدا على اللحظة البكر التي انفصل فيها الزمن عن سابقه، حين تحولت مكة، في لحظة نزول الوحي، من واد ساكن تحكمه تقاليد الآباء، إلى معترك سيمتد حتى يملأ الآفاق، كان يعلم أن قريشا لن تهادن الدعوة، ولن تقابلها بصمت مستكين، بل سترى فيها خطرا يستهدف كل منظومتها، فهم ورقة أن هذه الآيات لم تكن نبوءة شخصية تخص محمدا صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كانت إعلانا بقدوم الرسالة الخاتمة، التي ستنسف معابد الوثنية، وتبدل موازين الأرض.
فإذا كان جبير بن مطعم في وقت لاحق "كاد قلبه أن يطير" حين سمع سورة الطور، فإن ورقة كاد يرى المستقبل ماثلا أمامه، كأنه يشهد المعركة الكبرى من بدايتها، وكأن الوحي لم ينزل على محمد وحده، بل سرت رجفته في قلب الرجل الحكيم، فارتجفت كلماته، ونطقت بصوت التاريخ: "يا ليتني فيها جذعا".
يبدو لي أن كلماته الكاشفة استبصار مبكر بانفصال زمن الجاهلية عن زمن النبوة، كانت تلك اللحظة إعلانا بأن العالم لن يكون كما كان، وأن كلمة "اقرأ" لم تكن دعوة للعلم فحسب، بل كانت فاتحة عصر جديد، حيث يمتحن الناس بكلمة الحق، وتقلب صفحات التاريخ إلى غير رجعة..

 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة