حديث الآحاد حجة في العقائد والأحكام

0 2481

ظلت أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - محل التسليم والقبول بدءا من عهد الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وسلف الأمة الأخيار ، من غير تفريق بين المتواتر والآحاد، وبين ما يتعلق بأمور المعتقد وما يتعلق بالأحكام العملية ، فكان طريق العلم والعمل بها هو الخبر الصادق، وكان الشرط الوحيد في قبول الحديث هو الصحة ، سواء قل رواته أم كثروا ، ولم يكونوا يطلبون أمرا زائدا على الصحة، حتى ظهرت بدع الاعتقاد ، وتأثر فئام من الناس بالمنهج الفلسفي الكلامي ، فأعملوا عقولهم وآراءهم وقدموها على الوحي ، وعلى كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام ، تحت دعوى تقديس الوحيين ، وتعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به .

ولما كانت نصوص الكتاب والسنة صريحة في إبطال ما أحدثوه ، ورد ما ابتدعوه ، احتالوا في ردها والتلاعب بها من أجل أن تسلم لهم عقيدتهم ، فأتوا إلى نصوص القرآن الكريم فأولوها وصرفوها عن ظاهرها بدعوى التنزيه ، ثم جاؤوا إلى نصوص السنة فمنعوا الاستدلال بها في أمور الاعتقاد ، بدعوى أنها أحاديث آحاد لا تفيد اليقين والقطع ، والعقائد لا تبنى إلا على اليقين ، والله جل وعلا قد ذم في كتابه الآخذين بالظن والمتبعين له .

وهذا القول - وهو إيجاب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام دون العقائد - قول مبتدع حادث لا أصل له في الشريعة ، لم يعرف إلا عن المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يزل الصحابة والتابعون وتابعوهم ، وأهل السنة والحديث يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الاعتقاد والأحكام من غير تفريق بينهما ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته .

والأدلة من الكتاب والسنة جاءت عامة في اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من عصيانه ومخالفة أمره ، من غير تفريق بين أمور العقيدة وأمور الأحكام كقوله تعالى : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (الأحزاب: 36) ، فقوله " أمرا " عام يشمل كل أمر سواء أكان في العقيدة أم الأحكام ، وقوله : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: 7) ، وقوله : {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور: 63) ، فتخصيص هذه الأدلة بالأحكام دون العقائد تحكم لا دليل عليه .

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث عددا من أصحابه إلى أطراف البلاد ليعلموا الناس أصول الدين وفروعه، وأمور العقائد والأحكام، فأرسل عليا ومعاذا وأبا موسى وغيرهم من الصحابة ، بل قال لمعاذ كما في الحديث المتفق عليه : (إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) وفي رواية : (إلى أن يوحدوا الله - فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ، فأمره بتقديم الدعوة إلى العقيدة والتوحيد على أركان الإسلام الأخرى ، ولم ينقل أن أحدا من أولئك الرسل اقتصر على تبليغ الفروع والأحكام العملية فقط ، مما يؤكد ثبوت أمور العقيدة بخبر الواحد وقيام الحجة به .

وكذلك كانت رسائله - صلى الله عليه وسلم- وكتبه التي كان يبعث بها إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام وعبادة الله وحده ، فيحصل بها التبليغ ، وتقوم بها الحجة ، مع أن الرسل كانوا آحادا ، ولو كان خبر الواحد لا يقبل في العقائد للزمه أن يبعث إلى كل قطر جماعة يبلغون حد التواتر ، ليحصل اليقين بخبرهم .

كما انعقد الإجماع على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقائد والأحكام على السواء ، قال الإمام الشافعي في كتابه الرسالة (1/457) : " ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه ، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي ، ولكن أقول : لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد ، بما وصفت من أن ذلك موجود على كلهم " أهـ .

وقال الإمام ابن عبد البر في كتابه التمهيد (1/8) - وهو يتكلم عن خبر الآحاد وموقف العلماء منه - : " وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات ، ويعادي ويوالي عليها ، ويجعلها شرعا ودينا في معتقده ، على ذلك جميع أهل السنة " .

وقال الإمام ابن القيم (مختصر الصواعق المرسلة 775) : " وأما المقام الثامن: وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث ، وإثبات صفات الرب تعالى بها ، فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول ، فإن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين رووا هذه الأحاديث وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول ، ولم ينكرها أحد منهم على من رواها ، ثم تلقاها عنهم جميع التابعين ، من أولهم إلى آخرهم " .

ولهذا أثبتوها في مصنفاتهم وكتبهم معتقدين موجبها على ما يليق بجلال الله تعالى ، ومن نظر في كتب المحدثين الأعلام - كالبخاري ومسلم وأبي داود وأحمد وابن خزيمة - علم يقينا أن مذهبهم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد .

والقول بأن هذه الأحاديث ليست حجة في العقائد يستلزم تفاوت المسلمين فيما يجب عليهم اعتقاده ، مع بلوغ الخبر إليهم جميعا ، فالصحابي الذي سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا يتضمن عقيدة ما كحديث النزول مثلا ، هذا الصحابي هو الذي يجب عليه أن يعتقد ذلك لأن الخبر بالنسبة إليه يقين ، وأما الذي تلقى الحديث عنه من صحابي آخر أو تابعي فهذا لا يجب عليه أن يعتقد موجبه ، حتى وإن بلغته الحجة وصحت عنده ، لأنها إنما جاءته من طريق آحادي ، وهو كلام باطل قطعا لأن الله جل وعلا يقول: {لأنذركم به ومن بلغ} (الأنعام: 19) ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : (نضر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى له من سامع) رواه الترمذي وغيره .

وهذا التفريق بين العقائد والأحكام إنما بني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل ، وأن الأحكام العملية لا تقترن معها عقيدة ، وهو تفريق باطل من أساسه ، قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " فإن المطلوب من العمليات أمران : العلم والعمل ، والمطلوب من العلميات العلم والعمل أيضا وهو حب القلب وبغضه ، وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته وبغضه للباطل الذي يخالفها ، فليس العمل مقصورا على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع ، فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه ، بل هو أصل العمل وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان... إلى أن قال: فالمسائل العلمية عملية والمسائل العملية علمية ، فإن الشارع لم يكتف من المكلفين في العمليات بمجرد العمل دون العلم ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل " أهـ .

ولذا فإن رد خبر الآحاد في العقائد يستلزم تعطيل العمل به في الأحكام العملية أيضا ، ويؤول إلى رد السنة كلها ، خصوصا ونحن نعلم أن كثيرا من أحاديث الأحكام العملية تتضمن أمورا غيبية اعتقادية كقوله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال) رواه مسلم .

قال الإمام ابن حبان في مقدمة صحيحه : " فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد.. إلى أن قال: وأن من تنكب عن قبول أخبار الآحاد ، فقد عمد إلى ترك السنن كلها ، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد ".

كما أن القول بأن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة ، هو قول في حد ذاته عقيدة استلزمت رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبالتالي فإن القائل به مطالب بأن يأتي بالدليل القاطع المتواتر على صحته عنده بما لا يدع مجالا للشك ، وإلا فهو متناقض حيث قد وقع فيما رمى به غيره .

وأما الاستدلال بأن الله جل وعلا قد ذم في كتابه الآخذين بالظن والمتبعين له ، فجوابه أن الظن الذي عابه الله على المشركين بقوله : {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} (الأنعام: 116) ، وبقوله : {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} (النجم: 23) ، إنما هو الظن المرجوح المبني على الخرص والتخمين واتباع الهوى ومخالفة الشرع ، وهذا لا يؤخذ به في الأحكام فكيف يؤخذ به في العقائد ، وأما الظن الراجح المبني على الأدلة والقرائن الصحيحة فهذا غير معيب في كتاب الله جل وعلا ، بل قد يصل الظن إلى درجة قريبة من اليقين ، ولذلك ورد في القرآن التعبير عن العلم بالظن في قوله تعالى : {إني ظننت أني ملاق حسابيه} (الحاقة: 20) ، وقوله : {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} (التوبة: 118) .

وخلاصة القول فإن أدلة الكتاب والسنة ، وإجماع الصحابة وسلف الأمة ، يدل دلالة قاطعة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في كل أبواب الشريعة ، سواء أكان في الأمور الاعتقادية أم الأمور العملية ، والتفريق بينهما ، بدعة لا يعرفها السلف ، وفي ذلك ما يكفى ويغني طالب الحق والهدى ، فعلى العبد أن يسلم لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة ، وألا يتحكم في ردها أو مخالفتها بالحجج الواهية ، والعقول القاصرة : {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور: 63) .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة