تأملات في واقع المدينة قبل الهجرة

0 2104

 

 

بعد أن اضطهدت قريش المسلمين في مكة ، وأصبحت الهجرة أمرا ضروريا لا مفر منه ، تم اختيار المدينة النبوية مكانا مناسبا لإقامة الدولة الإسلامية ، وقاعدة تنطلق منها قوافل الدعوة إلى الله في أنحاء الجزيرة .

 

 

ولمعرفة الأسباب التي جعلت من المدينة المكان الأنسب للهجرة دون غيرها من البلدان ، من المهم جدا استعراض واقع المدينة قبل الهجرة وجذورها التاريخية ، والعقائد التي سادت في مجتمعها ، وطبيعة العلاقات التي كانت تحكم القبائل المقيمة فيها .

 

 

الواقع التاريخي والاجتماعي

ينقسم المجتمع المدني بشكل رئيسي إلى ثلاثة أقسام : الأوس ، والخزرج ، واليهود ، إضافة إلى البدو الذين وفدوا إلى المدينة وسكنوها بشكل مؤقت لأغراض اجتماعية أو تجارية .

 

 

أما اليهود فهم أقدم من استوطن المدينة ، ويبدأ تاريخهم فيها بعد خرجوهم من بلاد الشام عقب الاضطهاد الروماني ، حيث ظلوا يبحثون عن أرض مناسبة ، حتى استقر بهم المقام في يثرب ، واستطاعوا تأسيس مجتمعهم من الناحية الفكرية والاقتصادية والاجتماعية .

 

 

ويتكون المجتمع اليهودي من ثلاث قبائل هي : بنو قينقاع ، الذين سكنوا داخل المدينة بعد خلافات وقعت بينهم وبين بقية اليهود ، وبنو النضير وقد استوطنوا واديا خارج المدينة ، وبنو قريظة ، وكانوا يسكنون جنوب المدينة على بعد أميال منها .

 

 

ومع ذلك فقد أشار القرآن الكريم إلى وجود عداوات بين هذه القبائل الثلاثة ، الأمر الذي لم يمكنهم من التعايش فيما بينهم ، وكانت سببا في تفرقهم في نواحي المدينة ، ولجوء كل قبيلة إلى من جاورها من العرب بحثا عن النصرة والحماية .

 

 

أما فيما يتعلق بالأوس والخزرج ، فإن أصولهما ترجع إلى قبائل الأزد التي هاجرت من اليمن بعد خراب سد مأرب ، وقد اختار الأوس شرق وجنوب المدينة للإقامة ، بينما فضل الخزرج البقاء في وسطها .

 

 

وقد نشأت بين بني هاشم ، وبين بني عدي بن النجار - من الخزرج - علاقة رحم ومصاهرة ، حيث تزوج هاشم من نسائهم فولدت له عبد المطلب ، وبذلك يكون بنو عدي أخوالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أوجدت هذه المصاهرة نوعا من التقارب بين أهل المدينة وبينه عليه الصلاة والسلام .    

 

 

وتاريخ الأوس والخزرج مليئ بالحروب التي ظلت قائمة بينهم زمانا طويلا ، ولا تكاد تهدأ حتى تعود مرة أخرى ، وكان لليهود دور بارز في إبقاء نار العداوات مشتعلة بين الفريقين ، من أجل ضمان السيطرة على مجريات الأمور في المدينة .  

 

 

وكان آخر تلك الحروب " يوم بعاث " ، الذي انتصر فيه الأوس على الخزرج، وقتل فيه أيضا عدد من زعماء الفريقين ممن طبعوا على معاني الكبر والاستعلاء ، وبقيت القيادات الشابة الجديدة التي كان لديها الاستعداد لتلقي الحق وقبوله ، فكان يوم " بعاث " تهيئة لقبول أهل المدينة دعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم - .

 

 

الواقع الديني

يتبين مما سبق أن المدينةكانت تسيطر عليها الوثنية من جهة ، واليهودية من جهة أخرى ، وإن كانت المظاهر الوثنية هي السمة الأغلب على المجتمع .

 

 

ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة اليهود العنصرية ، التي لا تشجع غيرها في الدخول تحت لوائها ، حيث كانوا ينظرون إلى الشعوب الأخرى نظرة احتقار وترفع ، ويعتبرون أنفسهم شعبا مقدسا اختاره الله من بين العالمين .

 

 

ولارتباط اليهود بالكتب السماوية ، كانت لهم مدارس يتداولون فيها أخبارهم ، ويتعلمون فيها أحكام دينهم ، وإن كان الكثير من معالم شريعتهم قد ضاع بسبب تحريف الأحبار وعلماء السوء .

 

 

ومن الأمور التي ظلت محفوظة في دينهم ، البشارة بالنبي الذي سيبعث آخر الزمان ، وذكر صفته وأحواله ، ويشير القرآن إلى ذلك في قوله تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } ( الأعراف : 157 ) ، وكان اليهود يهددون العرب باتباعه ويقولون : " تقارب زمان نبي يبعث ، الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم " ، فشاع ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلم الناس قرب بعثته ؛ ولذلك لما ذهب الأنصار إلى مكة والتقوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم –  لم يترددوا فيه تصديقه وقبول دعوته ، وقال بعضهم لبعض : " تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه " .

 

 

أما ما يتعلق بالوضع الديني لعرب المدينة فقد كان خاضعا لسلطان الوثنية السائد في المنطقة ، حيث انتشرت مظاهر الشرك المختلفة من عبادة الأصنام وتعظيمها .

وكان لعرب المدينة أصنامهم الخاصة بهم - ومن أشهرها : صنم مناة - ، وكانوا يقدمون لها القرابين والنذور المختلفة ، ويطوفون بها كطوافهم بالبيت ، إلى غير ذلك مظاهر الشرك والضلال .

 

 

الواقع الجغرافي  

تعتبر المدينة النبوية ذات موقع هام ومتميز ، بسبب وقوعها في طريق القوافل التجارية المتجهة إلى الشام ، مما يتيح لأهلها إمكانية التعرض لتلك القوافل ، وممارسة الضغوط الاقتصادية على أصحابها ، وقد استفاد المسلمون من هذا السلاح الهام في محاربة قريش واستنزاف مواردها .

 

 

إضافة إلى أن المدينة كانت محاطة بعدد من الحواجز الطبيعية التي وفرت لها نوعا من التحصين والمنعة ، ولم تكن مكشوفة سوى من الجهة الشمالية التي بنى فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – الخندق لاحقا ، وهي صفات لم تكن موجودة في غيرها من المدن .

 

 

الواقع الاقتصادي  

يأتي النشاط الزراعي على قائمة النشاطات التي اشتهر بها أهل المدينة ، ساعدهم في ذلك خصوبة الأرض ، وكثرة وديانها ، ووفرة المياه في باطنها.

 

 

وإلى جانب ذلك ، كان هناك النشاط الصناعي الذي اشتهر به اليهود ، ويشمل ذلك بطبيعة الحال : الصناعات الحربية المختلفة ، وأعمال النجارة ، وصياغة الحلي والذهب . 

وعلى الرغم من التفوق العددي للعرب آنذاك إلا أن السيطرة الاقتصادية كانت بيد اليهود، حيث استغلوا حاجة العرب إلى المال لشراء البذور وأدوات الزراعة ، ولتغطية نفقات الحرب القائمة بين الأوس والخزرج ، فكان اليهود يقرضونهم بالربا ، ويغالون في الفوائد أضعافا مضاعفة ، مستغلين في ذلك نقص الموارد وقلة ذات اليد ، مما أوقع الكثير من العرب في الديون الثقيلة ، وجعلهم أسرى لمصاصي الدماء وتجار الحروب .

 

 

وأمام هذه السيطرة المحكمة أراد العرب أن يخرجوا من تلك الأزمة الخانقة التي صنعها اليهود ، فانطلقوا يبحثون عن المخرج من هذا الوضع الصعب ، ليجدوا مرادهم في مكة المكرمة ، حيث الرسالة الربانية التي عاش الجميع تحتها في أمن وأمان .

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة