- اسم الكاتب: نور الهدى سعد
- التصنيف:أب .. وأم
عندما أنجبت، وعشت معاناة الأمومة ومسئولياتها، أدركت كم تعبت أمي في تربيتي أنا وأشقائي، وأحسست أنني مهما فعلت فلن أوفيها حقها في البر والعرفان.
عبارة ترددها كثيرات لفظا، أو تتردد داخلهن وهن يحترقن كشمعة دؤوب في أتون المسئوليات الأسرية ، يختطفن سويعات النوم ، ويدرن كنحلة طوال اليوم بين مطالب الزوج والأبناء، يأكلن واقفات ليلحقن بمهام عاجلة لا تحتمل ترف الجلوس والراحة، ويستيقظن والبيت كله غارق في دفء النوم ليؤدين ما عليهن من واجبات، خاصة إذا كن عاملات يختطفن عملهن ساعات من يوم خاصمته البركة، فصارت ساعته ثانية، وأصبح السباق المحموم بين هذه الساعات العجلى والمسئوليات التي لا تنتهي .. معركة يومية متكررة.
نعم كلنا نحس بمعاناة أبوينا في تربيتنا عندما ننجب سواء اعترفنا بذلك أم أبينا.. ثم ماذا ؟
السؤال مرير يفتح جروحا مغلقة قسرا على قيح الجحود ، ويقتحم مناطق مزدحمة بدراما العقوق والتذرع بمشاغل الحياة تبريرا لجريمة خذلان الأبوين، والتخلي عنهما بعد أن يفنيا حياتهما لأجل صغار كبروا وتزوجوا وصاروا تروسا في آلات بيوتهم الجديدة ، وانفصلوا جسدا وروحا عن البيت الكبير الذي شهد سنوات البراءة ، والحلم والدفء الأسري الجميل ، وما زال بابه الرحب مفتوحا أمام الأحباء الذين غادروه ، مستعدا لاحتضانهم في أية لحظة حين يلوذون به طلبا لهدنة من صراع الحياة أملا في استرجاع ذكريات جميلة أجبرتها المسئوليات الكبيرة على التقوقع في ركن بعيد من الذاكرة.
نقدر معاناة آبائنا، ولكن قليلين هم من يحولون هذا التقدير إلى مواقف ملموسة وسلوكيات يومية معاشة ، وكثيرون يهزون أكتافهم مستهينين بجريمة العقوق التي يبررها لهم الشيطان، ويؤمنون هم على تبريراته الواهية الوقحة.
إنها مفارقة تثير الفزع من الغد، فالبر لا يبلى ، وأحداث الحياة المتلاحقة تقدم لنا كل يوم عشرات الأدلة على أن عقوق الوالدين جريمة معجلة العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، وتحذرنا من أن يجرفنا تيار العيش بعيدا عن مرفأ رضا الصدرين الحبيبين اللذين احتويانا صغارا ، وما زالا مستعدين لاحتوائنا كبارا مسئولين، ومن أن نفرط ، ونتذرع ونهون من فظاعة التخلي والخذلان لنندم وقت لا يجدي الندم.
أعرف سيدة أساءت معاملة أمها في مرضها الأخير، وضجرت من القيام على خدمتها، وكانت تضن عليها بالطعام والشراب حتى لا تضطر لتنظيفها بعد قضاء حاجتها على الفراش لعجزها عن الحركة ، وفي لحظات الاحتضار طلبت الأم العجوز كوب ماء فرفضت الابنة العاقة قائلة بفظاظة: تشربين لتبولي على نفسك، وأغرس أنا في هم لا ينقضي، وماتت الأم عطشانة، لتواصل الابنة حياتها وتكبر طفلتها، فيعيد التاريخ نفسه، وتذوق الأم ذات الكأس وتموت على فراش فقير مهمل ووحيدتها في المصيف مع أسرتها وحين يبلغونها بأن أمها في مرض الموت تقول باستهانة: وماذا بيدي أن أفعل، الله معها، ووجودي لن يؤخر أجلها ولكنه يضيع على متعة المصيف والنقود التي أنفقتها في حجز الشاليه!!
قد تكون هذه الوقعة شاذة ، غير قابلة للتكرار كثيرا ، ولكنها حدثت وكانت حلقة صدئة في سلسلة من مواقف العقوق المختلفة في درجة مرارتها وحمقها.
الكبار يموتون وحدهم ، على أسرة لم تغير ابنة بارة ملاءتها المتسخة، ولم يعدل ابن طيب وساداتها لتريح رأس الأب أو الأم المتعبين، يموتون بعد أن تجرعوا كأس الجحود والعلقم ، ويغلقون عيونهم على خيال الأحباء اللاهين الذين يهرولون بعد فوات الأوان ليطلبوا من الراحلين أن يسامحوا ويلتمسوا الأعذار!!.
شيوخنا لا يجدون من يحمل عنهم هموم شيخوختهم، ويتأملون بأسى أرجاء بيت لا تتردد فيه سوى أنفاسهم بعد أن كان يوما ما يضج بالحركة والحياة ، والأبناء كل غارق في حياة رخيصة تتضاءل وتضمر إلى جوار لحظة يسمعون فيها دعاء الرضا من فم طيب تساقطت أسنانه بعد سنوات شقاء طويلة.
أتأمل قوله تعالى: { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } وتغلبني دموعي وأنا أردد "عندك" .. "عندك".. وليس في دار المسنين، ولا في البيت الواسع الموحش .. "عندك" .. في بيتك وتحت رعايتك وفي كنف امرأتك، أو تحت ظل زوجك .. "عندك" .. معززين كريمين، لا عبئين ثقيلين ، "عندك" تستمطر منهما دعاءا حارا بالستر والصحة، وتستجدي رضاهما، وتقبل أكفا معروفة طالما غسلت وطهت، ورتبت، واحتضنت رؤوسا منهكة، وتنحني على أقدام كلت من السعي على الرزق، ومشت كثيرا لتقضي حاجاتك وأنت غارق في نوم مطمئن.
"عندك".. لا تجرح كرامتها زوجة خسيسة ، ولا يضجر منها زوج يعيش يومه ولا يسأل نفسه كيف سيكون حال أبنائي معي غدا ؟
"عندك" .. روحا طيبة.. تشع نورا وبركة.
"عندك".. لتستحق أنت .. وتستحقين أنت أن تكونا عند أبنائكما عندما تبلغان الكبر، ولتسقط كل الأعذار، والمبررات، ولتذهب جميع هموم العيش، ومسئوليات الأسرة ليعلو فرض البر وواجب خفض الجناح رحمة وعرفانا ، وليسع البيت مهما كان ضيقا ، والرزق مهما قل نبع الخير، وباب السعادة من أوجب الله شكرهما بعده جل وعلا، ولكن كثيرين اختاروا أن يجففوا النبع ويغلقوا الباب ويفرطوا في الواجب!!