أهمية الإسناد وعناية الأمة به

2 2560

بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان الصحابة رضي الله عنهم يروي بعضهم عن بعض ما سمعوه من النبي عليه الصلاة والسلام ، وكذلك من جاء بعدهم من التابعين كانوا يروون عن الصحابة ، ولم يكونوا يتوقفون في قبول أي حديث يرويه صحابي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وظل الأمر على هذه الحال حتى وقعت الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وما تبع ذلك من انقسامات واختلافات ، وظهور الفرق والمذاهب المبتدعة ، فأخذ الدس على السنة يكثر شيئا فشيئا ، وبدأ كل فريق يبحث عن ما يسوغ بدعته من نصوص ينسبها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعندها بدأ العلماء من الصحابة والتابعين يتحرون في نقل الأحاديث ، ولا يقبلون منها إلا ما عرفوا طريقها واطمأنوا إلى ثقة رواتها وعدالتهم ، وذلك عن طريق الإسناد ، فقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين رحمه الله قوله : " لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم ، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ، وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم " .

وابتدأ هذا التثبت والتحري منذ عهد صغار الصحابة الذين تأخرت وفاتهم عن زمن الفتنة ، ففي مقدمة الإمام مسلم عن مجاهد قال جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه - أي لا يستمع - ولا ينظر إليه ، فقال : " يا ابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي ، أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع ، فقال ابن عباس : " إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف " .

ثم أخذ التابعون في المطالبة بالإسناد حين فشا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أبو العالية : " كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم " .

وهذا الاهتمام البالغ بالإسناد ، يبرز لنا ضرورته وأثره في علم الحديث ، وذلك من خلال أوجه متعددة ، أولها : أن الإسناد خاصية من خصائص هذه الأمة التي انفردت بها ولم تشاركها فيها أمة من أمم الأرض ، فلم يؤثر عن أمة من الأمم من العناية برواة أخبارها وأحاديث أنبيائها ما عرف عن هذه الأمة ، قال أبو على الجياني : " خص الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها ، الإسناد ، والأنساب ، والإعراب " ، وقال أبو حاتم الرازي : " لم يكن في أمة من الأمم من خلق الله آدم ، أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة ".

وعن طريق الإسناد يمكن تحقيق الأحاديث والأخبار ، ومعرفة الرواة ، فيستطيع طالب الحديث أن يقف على درجة الحديث وصحته من ضعفه ، وبالإسناد تحفظ السنة وتصان من الدس والتحريف والوضع ، والزيادة والنقص ، وبالإسناد تدرك الأمة منزلة السنة ومكانتها وما لقيته من العناية والاهتمام ، حيث إنها ثبتت بأدق طرق النقد والتحقيق التي لم تعرف البشرية لها مثيلا في تاريخها كله ، وبذلك يرد على دعاوى المبطلين والمشككين ، وتفند شبهاتهم التي أثاروها حول صحة الحديث .

لهذه الأمور ولغيرها تواترت الأخبار واستفاضت عن الأئمة في أهمية الإسناد والحث عليه ، حتى جعلوه قربة ودينا ، قال عبد الله بن المبارك : " الإسناد عندي من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، فإذا قيل له من حدثك ؟ بقي " أي : بقي متحيرا لا يدري ما يقول ، لأنه لا إسناد معه يعرف به صحة الحديث أو ضعفه ، وقال أيضا : " بيننا وبين القوم القوائم " يعني الإسناد ، وقال الثوري : " الإسناد سلاح المؤمن ، إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل " ، وقال شعبة : " كل حديث ليس فيه ( حدثنا ، وأخبرنا ) فهو مثل الرجل بالفلاة معه البعير ليس له خطام " ، وجاء عن ابن سيرين " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " ، وقال الأوزاعي : " ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد " ، وشبه بعضهم الحديث من غير إسناد بالبيت بلا سقف ولا دعائم ونظموه بقولهم : 

والعلم إن فاته إسناد مسنده      كالبيت ليس له سقف لا طنب

ونتيجة لهذا التأكيد على المطالبة بالإسناد ، وما حظي به من اهتمام بالغ وعناية فائقة ، نجد أن كتب الحديث التي دونت منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري قد التزمت به ، وأطلق عليها اسم المسانيد " جمع مسند " ، وهو اسم ذو علاقة واضحة بقضية الإسناد ، ومن أشهر هذه المسانيد ، مسند معمر بن راشد ( 152هـ ) ، ومسند الطيالسي ( 204هـ ) ، ومسند الحميدي ( 219هـ ) ، ومسند أحمد بن حنبل ( 241هـ ) ، ومسند الشافعي ( 204هـ ) ، وغيرها من كتب المسانيد ، وكانت هذه المسانيد هي العمدة للمؤلفين الذي جاؤوا من بعد ، فعولوا عليها واعتمدوها مصادر لهم ، واستمر نهج العلماء الذين كتبوا الصحاح والمسانيد والسنن والمصنفات والموطآت على هذا النهج في التزام الإسناد التزاما دقيقا .

كل هذا يؤكد لنا أهمية الإسناد في علم الحديث ، ومدى عناية الأمة به ، وأنه مما حفظ الله به دينه من الضياع والتحريف ، تحقيقا لوعد الله في حفظ ما أنزل من الذكر {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة